حين اتّفق اللبنانيون على صيغة الميثاق الوطني عام 1943 من خلال التوزيع الطائفي للسلطات والصلاحيات في البلاد، على أن يشغل الرئاسة الأولى مسيحيّ وتحديداً من الطائفة المارونية، لم يخطر ببال أكثرهم تشاؤماً أن يتحوّل هذا التقدير لدور الطائفة اللبناني والعربي، وبالاً عليها يُهدّد اشتداده وحدة الدولة ومؤسّساتها، وذلك بعد نحو 100 عام.
لم يَكن تخصيص الموارنة بموقع رئاسة الجمهورية وصلاحيّاته الواسعة قبل تعديلات «الطائف»، انعكاساً لتعداد ديموغرافي رسمي أجراه الإنتداب الفرنسي عام 1932، بل اعترافاً بدورهم التأسيسي في الكيان، وتحديداً جبل لبنان.
البطريرك الياس حويك هو مَن ناضل في مؤتمر الصلح في باريس لإرساء «لبنان الكبير»، ولم يكتفِ بجبل لبنان أو المتصرّفية حيث تمتَّع الموارنة بغالبية مريحة جداً، بل ضمَّ الأقضية الأربعة بغالبيتها المسلمة التي رفضت أولاً الالتحاق بـ»الكيان الوليد» قبل أن يُرسي الرئيسان رياض الصلح وبشارة الخوري صيغة الميثاق الوطني.
لم يَقتصر دور المسيحيين عموماً والموارنة خصوصاً على لبنان، بل لعبت «المدرسة المارونية» في روما دوراً في تثقيف جيل كامل ساهم في نقلة تنويرية في لبنان والمنطقة، جعل الطائفة المارونية رائدة في محيطها، وصولاً الى مواجهة «التتريك».
منذ العام 1943، وحتى في أوَجّ الحرب الاهلية، حرص الموارنة وبقية مكوّنات البلد على انتخاب رئيس جديد للجمهورية وفق المواعيد الدستورية. حتى في الفترات الاستثنائية مثل استقالة الرئيس بشارة الخوري، شغل قائد الجيش فؤاد شهاب منصب رئيسٍ لحكومةٍ انتقالية أمَّنت انتخابَ رئيس جديد هو كميل شمعون خلال أيام قليلة.
لكنّ هذا العرف الراسخ في تأمين انتخاب رئيس للجمهورية وفق المواعيد الدستورية، تحوّل في الأعوام الأخيرة عرفاً معاكساً جعَل الفراغ الرئاسي هو الأمر السائد والمعتاد، كالفراغ الذي شهِدته البلاد عام 2007 مع نهاية ولاية الرئيس اميل لحود الممدّدة، واستمرّ أشهراً، والفراغ الذي تشهده البلاد راهناً منذ 25 أيار الماضي، وهو الفراغ الرئاسي الثاني على التوالي، والذي يأتي في اكثر الاوقات حراجة.
هذا الفراغ هو الثاني بعد اتفاق الطائف، والثالث إذا ما حسبنا ذاك الذي تلا ولاية الرئيس أمين الجميّل عام 1988. ويبدو أنّه في الحالات الثلاث يجب أن تُفتّش عن «الجنرال»، والمقصود طبعاً قائد الجيش السابق ورئيس تكتل «التغيير والاصلاح» النائب ميشال عون، حليف «حزب الله».
فعون ترأس حكومة انتقالية، صلاحياتها وفق الدستور تأمين انتخاب رئيس في أسرع وقت ممكن، الأمر الذي لم يحصل.
وفي العام 2007، أدّت عوامل عدّة بينها إصرار الجنرال على ترشيح نفسه للرئاسة، الى تعطيل انتخاب رئيس جديد لنحو عام، والأمر نفسه يتكرَّر اليوم، لكن ما يجعله اكثر خطورة هو أنّه يأتي في وقت تجتاح الاصولية التكفيرية المنطقة، فارضة تهجيراً قسرياً على مسيحيّي العراق، وتهديداً لمسيحيّي سوريا، ولكل أقليات المنطقة.
الآن، الرئاسة عالقة بين طموح الجنرال المستند في درجة أولى الى حيثيّة شعبية لا يمكن إنكارها أو إغفالها، وإن كان موقعه كرأس حربة في قوى
«8 آذار» يجعله مثل سمير جعجع قائد حزب «القوات اللبنانية» في «14 آذار»، ما يُفقد الرجلين حظوظهما في الوصول إلى بعبدا.
عون وجعجع المارونيان القويان، وإن كانا فقدا حظوظهما في زمن «النأي بالنفس»، إلّا أنّهما يحتفظان بفيتو رئاسي مؤثر، ويبدو أنّهما لن يتردّدا في إستخدامه، وحيث يتردَّد على نطاق واسع أنّ المملكة العربية السعودية وفرنسا، منحتا جعجع، كتعويض عن عدم إمكان انتخابه رئيساً حالياً، حق «الفيتو» على أيّ مرشح رئاسي.