توقف كثيرون عند كلمة الرئيس العماد ميشال سليمان ليل أول من أمس وتوجه بها الى اللبنانيين، مقيمين ومغتربين، عشية موعد انطلاق المرحلة الاولى من استحقاق الانتخابات النيابية اليوم الجمعة، مع انتخابات المغتربين في الدول العربية، وبعد غد الاحد مع انتخابات المغتربين في أميركا وأوروبا وافريقيا.. وكانت كلمة لافتة في مضمونها وعناوينها وتوجهاتها وما المطلوب وما الممنوع والمرفوض والمحذر منه؟!
هي من المرات النادرة جداً ان يبادر أعلى مرجع في الدولة الى مثل هذا الخطاب في توقيت لافت عشية الانتخابات النيابية، على الارض اللبنانية في السادسة من ايار المقبل.. خصوصاً وان هذا المرجع بات موضع اتهام البعض، من «المحشورين» في الانتخابات المقبلة، لجهة التغطية على فريقه المتمثل بـ»التيار الوطني الحر»، والذي يترأسه صهره (وزير الخارجية) جبران باسيل، وما اثاره سلوك الوزير باسيل من اعتراضات في العديد من المناطق اللبنانية (اسلامية ومسيحية) لجهة «دفع الاموال» وعلى المكشوف، من قبل أثرياء لوائح «التيار» خصوصاً في «المتن وسائر الدوائر المسيحية ومن بينها، مرجعيون وحاصبيا (الجنوب الثالثة) والبقاع الاوسط (زحلة) وبعض الشمال.
يولي الرئيس العماد عون أهمية خاصة واستثنائية للانتخابات النيابية هذه، بعد قطيعة امتدت لنحو تسع سنوات، تحت اعذار لم تكن تخطر على بال أحد، وعنوانها الاساس «الضرورات تبيح المحظورات». ويسجل للرئيس عون تشدده في اجراء الانتخابات وفق قانون جديد، يتعرض للعديد من الانتقادات، ويحظى لديه بتقدير عالي المستوى، باعتباره أحد أهم انجازات العهد..
ليس من شك في ان الانجازات التي تحققت في عهد الرئيس العماد عون والى جانبه حكومة الرئيس سعد الحريري في مدة زمنية قصيرة، بالغة الأهمية في ظل ظروف داخلية وخارجية مفتوحة على العديد من الاحتمالات ولبنان يواجه تحديات ليست بسيطة وليست سهلة، وحاجاته تتزايد وتتصاعد وتتسع اقتصادياً واجتماعياً وانمائياً وسياسياً، ناهيك بالتحديات الامنية والظروف التي تمر بها المنطقة وما يواكبها من تعبئة طائفية ومذهبية، وتوسع دائرة الفقر والحرمان في الداخل، ما يفتح الباب واسعاً أمام إحدى أبرز المحرمات المتمثلة «بشراء الاصوات وبيع الناخبين وممارسة الضغوط والاغراءات..» على ما حذر منه الرئيس عون الذي أطلق في كلمته جملة تحذيرات وتنبيهات تتصل بالعملية الانتخابية وظروف اجرائها والمناخات السائدة من حولها، ووقائعها والعديد من الشوائب التي تخترقها، الامر الذي خلق مناخات سلبية، ومن أبرز هذه التحذيرات»، الشحن الطائفي والمذهبي، وتأجيج العصبيات المناطقية والطائفية، ما يضع البلد على طريق الفتنة.. إضافة الى ارتفاع منسوب شراء الاصوات وبيع الناخبين، بالجملة والمفرق، وممارسة الضغوط والاغراءات أمام آلاف الشباب اللبنانيين الذين يتطلعون الى فرص عمل تقيهم شر البطالة والحاجات التي تدفع بهم الى مغادرة وطنهم الام والتفتيش عن لقمة العيش في عالم الاغتراب، حيث بات عدد المقيمين والمنتشرين في الخارج أكبر كثيراً من عدد المقيمين في لبنان والغارقين في بحر الحرمان ونزوح النازحين..
لقد أكد الرئيس العماد عون في كلمته على ان «الانتخاب واجب وطني، وهو فعل وجود»، كما أنه «الطريق الوحيد للتغيير ضمن الديموقراطية» فالاختيار مسؤولية» تماماً كما الحرية، داعياً اللبنانيين الى التحرر من «وسائل الضغط والاغراء التي تفسد الضمائر..» والى عدم الاقتراع «لمن يدفع ويسخى بالمكرمات» لأن «من يشتريكم يبيعكم، ومن يبيع المواطن ليس صعبا عليه ان يبيع الوطن..» محذرا من التأجيج الطائفي والشحن المذهبي، لأن ذلك هو «أول خطوة على طريق الفتنة..».
لا أحد ينكر ان لبنان، من أقصاه الى أقصاه، يعيش اليوم فصلا من فصول الخيارات المفصلية التي تشهدها تركيبته السياسية والاجتماعية على أيدي من امتهنوا خبرة حقن النفوس بالمصل الطائفي والمذهبي، وهم في غالبيتهم الساحقة في مواقع القرار العليا، ويتربعون على عرش ثروات لا تقدر، بصرف النظر «من أين لك هذا»؟! وبالامكان القول، من دون مبالغة، ان النظام الطائفي في لبنان حقق درجة كبيرة من المناعة، أمام العقاقير الداعية الى الدولة المدنية، التي تقوم على أساس المواطنة التي تساوي بين الجميع في الحقوق والواجبات.. الامر الذي يطرح سؤالاً بديهياً، هو «هل الطائفية في لبنان قدر للبنان، عصي على العلاج والرحيل متحكم برقاب العباد والبلاد؟ أم أنه خيار يملك اللبنانيون القدرات الضرورية لوأدها، واستنبات صيغة أخرى للنظام والحكم تقوم على قواعد المواطنة والمساواة والحداثة والعدالة والعلم والمعرفة والتطور والرقي والتقدم، لوضع لبنان على سكة أخرى تخرجه من هذا الجحيم، ومن هذا الانحدار الجماعي المتكرر على مدى تاريخه القديم والحديث.
إذا كانت الطائفية قدراً، «فلا حول لنا عليه ولا قوة» فلقد حمل هذا القدر للبنانيين من الويلات والكوارث ما حفر في ماضيهم وحاضرهم ندوبا وحروباً وتهجيرا ونزوحاً لا توصف.. فقد حولت الطائفية لبنان، هذا الوطن، الى «كعكة» تتقاسمها سكاكين أصحاب الامتيازات الذين يتوارثونها، ويتعاملون مع هذا الواقع بخفة غير مسبوقة..