تعدّدت التفسيرات لكن النتيجة واحدة: المبادرة الفرنسية تلفظ أنفاسها الأخيرة، إلا اذا قررت باريس مدّها بالمقويات والزخم الكافي الذي يعيد إليها الروح. ساعات فاصلة بين التدخل الفرنسي التفصيلي لإيجاد أرضية مشتركة مع الثنائي الشيعي تسمح له بالعودة إلى بيت الطاعة الحكومية، وبين تقديم رئيس الحكومة المكلف مصطفى أديب اعتذاره.
تكثفت الاتصالات خلال الساعات الأخيرة، ومنها بين السفارة الفرنسية في بيروت وبين الثنائي الشيعي في محاولة أخيرة لنزع الألغام من أمام حكومة استثنائية في ظروف ولادتها، في توقيتها، وفي مهمتها… قبل أن يتوجه أديب إلى قصر بعبدا ويرفع يديه استسلاماً.
الأكيد أنّ الفرنسيين أظهروا أمس نية جدية للمعالجة، سواء من خلال تقديم التطمينات للثنائي الشيعي بأنّهم لا يدفعون الحكومة العتيدة في اتجاه أي أجندة سياسية مريبة، أو من خلال فتح قنوات التشاور لمراجعة آلية التأليف لتأخذ في الاعتبار هواجس كل الأطراف.
وسواء كان للعامل الاقليمي وتحديداً الأميركي الضاغط، دور في العرقلة واستطراداً تصلّب الثنائي الشيعي، أم لم يكن، فثمة إجماع على أنّ سوء إدارة مشاورات التأليف صبّ الزيت على النار التي أحدثتها العقوبات الأميركية. وراح المتابعون يبحثون عن إجابات شافية عن سؤال جوهري: هل صحيح أنّ رؤساء الحكومات السابقين التفوا على المبادرة الفرنسية وراحوا يستثمرون بها لتشكيل حكومة تحت عنوان اختصاصيين لكنها مربوطة بالسياسة عندهم، ما دفع الثنائي الشيعي إلى قلب الطاولة رأساً على عقب؟ أم أنّ “حزب الله” تراجع عن تعهده أمام الفرنسيين بالسير في حكومة لا تمثيل سياسياً فيها لاعتبارات خارجية وقرر المشاكسة لنسف المسعى الفرنسي؟
المهم أنّ الضجة الحكومية ترافقت مع صمت مطبق يلفّ مقر رئيس الحكومة المكلف، حتى أنّه قصد رئيس الجمهورية ثلاث مرات لكنه في كل مرة امتنع عن وضع الرئيس عون في تفاصيل مهمته، الأمر الذي زاد من الغموض حول حقيقة موقفه مما يحصل، ما دفع رئيس الجمهورية ميشال عون إلى تعبئة الفراغ الذي أحدثه أديب، من خلال القيام بسلسلة مشاورات علّها تساعد على تفكيك العقد.
الأكيد أنّ رئيس الجمهورية بقي طوال تلك المدة في عزلة عما يفعله رئيس الحكومة المكلف، لكنه بالنتيجة يعرف أنّ التوقيع الذي بين يديه يمنحه حصانة سرعان ما سيستخدمها حين توضع المسودة الحكومية على طاولته. ولهذا لم يشكُ من سياسة الكتمان التي يلتزم بها أديب.
لا بل قرر رئيس الجمهورية اتباع استراتيجية جديدة في التعامل مع الملف الحكومي، لم يسبق أن لجأ إليها خلال فترات تأليف حكومات عهده الثلاث. وهنا لا بدّ من التوقف عند نقطة جوهرية اختزلت النقاشات التي خاضها رئيس الجمهورية مع الكتل النيابية، والتي تمحورت حول المداورة، حيث تبين أنّ كل الأطراف يؤيدون هذا الطرح باستثناء الثنائي الشيعي الرافض لها كونه متمسكاً بالتوقيع الثالث الذي تخوّله حقيبة المال.
عملياً، تكشف هذه الوقائع وجهاً جديداً لسلوك رئيس الجمهورية في الملف الحكومي. عادة ما كانت الرئاسة الأولى ومعها “التيار الوطني الحر” يتعاطيان مع الملف الحكومي بصفتهما شريكاً أولاً لا أخيراً، وبأن سلة مطالبهما ترد في رأس قائمة المطالب لا في آخرها. بالأمس، نفض جبران باسيل يديه من أي مطالب تحت عنوان التسهيل، ومن يلتقي رئيس الجمهورية في هذه الأيام يسمع منه المعادلة ذاتها: سيقدم كل التسهيل الممكن ولكن من دون التفريط بصلاحياته.
وتظهر سلوكيات رئيس الجمهورية خلال الأيام الأخيرة حرصه على لعب دور توفيقي بين القوى السياسية. فمن جهة، هو مستعد لتقديم كل التسهيلات، ولكن من جهة ثانية لن يخوض مواجهة ضدّ الثنائي الشيعي لكي يربح نادي رؤساء الحكومات السابقين، لا بل يفضّل التوفيق بين الفريقين من باب العمل على انقاذ المبادرة الفرنسية. من هنا حاول اقناع الجميع بطرح المداورة بحيث لم يتردد في التوجه إلى كل من النائبين محمد رعد وعلي حسن خليل خلال اللقاءات التشاورية بأنّ الدستور لا يتيح تخصيص أي وزارة لأي طائفة، من هنا المداورة متاحة وقد تكون باباً للمعالجة.
ويبقى السؤال- المفتاح: هل سيوقع رئيس الجمهورية تشكيلة حكومية يرفضها الثنائي الشيعي؟
يجيب المتابعون بأنّ رئيس الحكومة المكلف لن يضع رئاسة الجمهورية في هذا الموقف، لأنّه بالأساس لن يتقدم بأي مسودة اذا لم تكن محصّنة بموافقة كل الأطراف