قيل ويُقال الكثير عن دور رئيس الجمهوريّة اللبنانيّة وصلاحياته التي قيل إن قسماً كبيراً قد اقتطع منها في اتفاق الطائف (1989) بحيث حُلت إلى مجلس الوزراء مجتمعاً الذي أُنيطت به بشكل عام صلاحيّات السلطة التنفيذيّة. وذهب البعض إلى حد وصفها بأنها بروتوكوليّة كما هي الحال مع الرئيس الألماني مثلاً مقابل الصلاحيّات السياسيّة والعسكريّة والاقتصاديّة للمستشار، أو مثل ملك بريطانيا مع إناطة السلطة الحقيقيّة بيد رئيس الوزراء.
طبعاً، هذه الأمثلة وسواها لا تستقيم تماماً لأن صلاحيّات الرئيس اللبناني ليست رمزيّة أو بروتوكوليّة، ولو أن طبيعة النظام انتقلت من الطابع الرئاسي إلى الطابع التشاركي من خلال الحكومة التي غالباً ما تضم ممثلين عن مختلف القوى السياسيّة الممثَّلة في المجلس النيابي، ما جعل السلطتين تعيشان حالة عميقة من التداخل وأدّى عمليّاً إلى تعطيل آليّات المحاسبة والمساءلة ما دام اللاعبون ذاتهم يتقاسمون السلطة هنا وهناك.
لقد رفع اتفاق الطائف من موقع الرئاسة، حيث أوكل للرئيس مهمة السهر على تطبيق الدستور وجعله بذلك فوق السلطات جميعاً ومؤتمناً على عدم السماح بخرقه أو انتهاكه. وأتاح له في الوقت ذاته أن يشارك في السلطة التنفيذيّة عبر منحه صلاحيّة ترؤس اجتماعات الحكومة من دون أن يصوّت أيضاً، بهدف الحفاظ على موقعه الوطني الجامع وكي لا يكون طرفاً في النزاعات أو مستفيداً من أيٍّ من القرارات.
ومع ذلك، حافظت الصيغة السياسيّة والميثاقيّة الجديدة التي تم التعبير عنها في اتفاق الطائف على مكتسبات مهمة لرئيس الجمهوريّة منها مثلاً ترؤسه المجلس الأعلى للدفاع، وهو مجلس يضم رئيس الحكومة، ووزيري الدفاع والداخليّة، وعدداً من الوزراء المعنيين، وقائد الجيش اللبناني، وقادة سائر الأجهزة الأمنيّة والعسكريّة الرسميّة. في عهد الرئيس السابق ميشال عون، انعقد هذا المجلس عشرات المرات، مما طرح تساؤلات عن المبالغة في استعمال الصلاحيّات وجعله مؤسسة رديفة لمجلس الوزراء!
كما أن رئيس الجمهوريّة هو القائد الأعلى للقوات المسلحة، وهذا يمنحه صلاحيّة متابعة عمل هذه الأجهزة والإشراف العام على دورها وأنشطتها. وهذه مسألة مهمة سياسيّاً، وحتى معنوياً، لما لها من رمزيّة، تُضاف إلى الشق الوظيفي والعسكري والأمني، في دور الرئيس وموقعه الوطني.
وعلى الرغم من إساءة استخدام بعض الرؤساء صلاحياتهم، لا سيّما في تشكيل الحكومات أو في تعطيل قراراتها؛ فإنه لا يمكن التقليل من أهميّة التوقيع الذي يفترض برئيس الجمهوريّة أن يضعه على مرسوم تأليف الحكومات ما يجعله يملك القدرة على التأثير الكبير في مسارات التأليف وخواتيمها. ولقد استباح بعض الرؤساء هذا «الحق»، على غير وجه حق، لضمان حصص لهم في الحكومات من خلال الإصرار على توزير أقاربهم أو محازبين لهم.
وقدّمت هذه الأمثلة الأدلة الساطعة على أن بعض الرؤساء ناقضوا قَسَم اليمين الذي أدّوه عقب انتخابهم أمام المجلس النيابي وأمام الرأي العام اللبناني والعربي والدولي، وأنهم لم يغادروا مربع الانتماء الحزبي الضيّق في مسيرتهم الرئاسيّة، لا بل على العكس قاربوا مختلف القضايا الوطنيّة من منظار أحزابهم ومصالحهم الضيّقة رغم أن قسطاً وافراً من الدعم السياسي توفر لهم قبل انتخابهم وكان بمثابة رافعة مسبقة لعهودهم الرئاسيّة، ولكن سرعان ما تبدّدت المناخات الإيجابيّة السابقة.
ليس هناك أسوأ من أن يتبوأ أحدهم منصباً رسميّاً ويديره وفق المنطق الفئوي الضيّق الذي يصب في مصلحته السياسيّة أو الشعبيّة المباشرة على حساب المصلحة الوطنيّة العليا. وليس هناك أسوأ من تسخير المؤسسات الرسميّة والحكوميّة لتلبية الحاجات الخاصة. فكيف إذا كان المنصب الرسمي هو المنصب الأرفع في الجمهوريّة الذي يفترض أن يكون بمثابة المثال الذي يُحتذى؟
صحيحٌ أن لبنان انتقل بعد اتفاق الطائف من النظام الرئاسي إلى النظام المختلط، إذا جاز التعبير، وأن النظام الجديد عكس قصوراً في تحقيق الأهداف المرجوّة نتيجة سوء الأداء السياسي والتشويه المتعمّد للكثير من بنوده ومفاهيمه وعناصره؛ إلا أن هذا لا يعني، بأي شكل من الأشكال، حتميّة إعلان وفاة الاتفاق، خصوصاً قبل التفاهم على إحلال عقد اجتماعي جديد وبديل تنتقل فيه البلاد من حالة الطائفيّة والمذهبيّة التي تحاصر السياسة والمجتمع والاقتصاد إلى حالة أكثر انفتاحاً ومساواة بين اللبنانيين.
إن استمرار المراوحة السياسيّة وتفاقم الانهيار الاقتصادي والانحطاط الاجتماعي يؤسس لحقبة جديدة من التراجع الذي قد لا يخلو من العنف المتقطع أو المنظم حسبما تتطلب اللحظة الإقليميّة والمحليّة خصوصاً أن لبنان لم يغادر ذاك الوصف اللعين الذي لاحقه (وكان وصفاً واقعياً وصحيحاً) بأنه «ساحة». لا يمكن أن يبقى لبنان الساحة المستباحة، بينما المطلوب لبنان الوطن والدولة القادرة والعادلة.