هل يحقّ للثورة أن تحاكم؟ وهل يحقّ لها أن تحاكم الرئيس؟ الثورة أجابت في بيانها الأول حين حصرت المسؤولية عن الأزمة في السلطة السياسية التي تعاقبت على حكم البلد منذ التسعينات، واختصرت لائحتها الاتّهامية بشعار “كلّن يعني كلّن”، الذي انطوى على أهمية مزدوجة. كان له الفضل في تجميع قوى الثورة حول برنامج واحد، كما أنه جعل حقل المناورة أمام أهل السلطة محدوداً ومحدّداً بمقرّات حاصرتها جماهير الشعب اللبناني الغاضبة. لم يتمكّنوا من الهرب لكنّهم تسللوا من خطأ لغوي ارتكبته الثورة حين طالبت بحكومة “تكنوقراط”، فتشكّلت حكومة الدمى بدل حكومة الأكفّ النظيفة. مع أنّ في بيت الشعر الذي قاله المتنبّي عن الفحول البيض والخصية السود نفساً عنصرياً، إلا أنه يعبّر عن حالة حكومة المستشارين المرتبكة التي قرّرت الشيء وضدّه أكثر من مرة، والتي انهمك رئيسها بالبحث عن المشط وعن الجهات الدولية والعربية والمحلية المتآمرة على 97% من إنجازاته الموهومة. مع حكومة الدمى، ضاق الخناق على المتسبّبين بالأزمة. ثم ضاق أكثر بعدما تدهورت أوضاع العملة الوطنية وتفشّى وباء “كورونا”. صار البحث عن الأسباب التاريخية للأزمة بمثابة تغطية على المسؤول المباشر عن تفاقمها، وانكشفت على حقيقتها الجهات المسؤولة التي تجاهلت مطالب الثورة، ولا سيما ما يتعلق بالإصلاح السياسي واستعادة المال المنهوب.
من إنجازات الثورة أنّ برنامجها الإصلاحي فرض على قوى محلية كانت جزءاً من السلطة أن تتبنّاها، وفرض على أخرى أن تستقيل من الحكومة ومن المجلس النيابي، ثم حمله الرئيس الفرنسي ووزراء من أميركا وكندا وهولندا وإيطاليا وأستراليا وغيرها زاروا لبنان بعد نكبة انفجار المرفأ، الذي يُعدّ ثالث أكبر انفجار في العالم بعد هيروشيما وناكازاكي، وأعلنوا باسم دولهم التضامن المشروط بتقديم المساعدات لمنظّمات المجتمع المدني، لعدم ثقتهم بالسلطة التي بات يمثلها حصراً تحالف الثنائي الشيعي و”التيار الوطني الحرّ”.
إستفاد هذا التحالف، في بداية الثورة، من شعار “كلن يعني كلن” ليوسّع دائرة المسؤولية، بل إنه أصرّ على أن يعود بأسباب الأزمة إلى “ثلاثين عاماً” ليحمّل الحريرية وزر الإنهيار المالي والنقدي والاقتصادي، إلا أنّ الثورة كشفت أن قطاع الكهرباء مسؤول عن نصف الدين العام والمال المنهوب، فازداد الخناق ضيقاً.
من ناحية أخرى، وهذا هو الأهمّ، أصرّت الثورة على التغيير تحت سقف الدستور، واستبدلت شعار الربيع العربي، الشعب يريد إسقاط النظام، بشعار الشعب يريد تطبيق النظام، وطالبت الحكومة الالتزام بأحكام الدستور ليكون ذلك بداية الطريق إلى تحقيق إصلاح سياسي. غير أنّ السلطة التنفيذية ردّت على مطلب الثورة إمعاناً بانتهاك الدستور في أمرين اثنين على الأقلّ، تمثّل الأول في التعيينات الإدارية التي أقرتها على أساس المحاصصة لا على أساس الكفاءة، والثاني في إصرار رئيس الجمهورية على عدم احترام استقلالية القضاء والامتناع عن إصدار مرسوم التشكيلات القضائية.
محاكمة الرئيس والوزراء ليست من صلاحية الثورة، لكن، من أَولَى من الثورة بإخضاعهم للمحاكمة السياسية؟