تشهد الصحافة في بلد الأرز، الذي صدَّر الحرف إلى العالم، وكرَّس حريّة الفكر والتعبير في محيط كانت ثقافة الرأي الواحد هي السائدة فيه، تشهد أسوأ أزماتها، وسط ظروف إقتصادية غير مسبوقة، لم يكن ينقصها سوى مواقف نارية من هنا أو هناك، حتى تقضي على آخر فرصها في الصمود، وبذلك تكون جفّت مواردها الداخلية والخارجية، أمام عجز الدولة المستمر، عن تقديم أية خطّة بديلة أو فتح أية آفاق للمعالجة.
لقد استطاعت القوى السياسية، بمختلف ألوانها، النيل ممّن صمد طوال خمسين عاماً من المعاناة المستمرّة، سواء من حرب أهلية مدمِّرة للطاقات البشرية والمكوّنات المادية، أو مواجهة التحدّيات المحليّة، التي حوّلت لبنان لفترة طويلة، إلى صندوق بريد، يتلقّى الرسائل الدموية بين القوى المتصارعة في المنطقة، أو إضعاف من رفض السكوت والخنوع للغة التفجير والإغتيال والإلغاء.
لقد فشلت الطبقة السياسة، الغارقة بفسادها والمُنشغلة بكيدياتها، بتقديم الرؤية الواضحة لدعم المؤسسات الصحافية، التي رفعت الصوت منذ فترة حول معاناتها دون أن تجد آذاناً صاغية، إلى أن وصلت إلى وقت بات إرثها الفكري الوطني عُرضة للإندثار.
لقد نُهبت مكتبات ومتاحف العراق، ودُمِّرت قلعة حلب ومعالمها الأثرية، وفَقَد لبنان أهم معالمه الحضارية، من بيئة تلوَّثت بنفايات سياسية بالدرجة الأولى، وسياحة ضُربت بفعل سياسات متهوِّرة، وصولاً إلى صحافة مهدَّدة بالإنقراض، ليس بفعل انتصار التكنولوجيا على الورق، ولكن بسبب عجز المؤسسات الإعلامية عن الإستمرار بالإثنين، وبالتالي اللجوء إلى الخيار الرقمي كخطوة لتحديد الخسائر وتجنُّب المحظور.
لم تبخل الصحافة في لبنان يوماً في دفع ثمن وجودها، وقدَّمت الكثير من الدماء قرباناً لحريّتها، إلا أن ريح الإستزلام والتبعية أثبتت أنها أقوى من رياح الصحافة المسؤولة والمستقلِّة، خاصة في ظل فوضى سياسية عارمة، وعجز رسمي بدأ لحظة كُرِّس الفراغ رئيساً للجمهورية، والشلل مرضاً عُضال ضرب مفاصل الدولة بمختلف مؤسساتها، وترك المواطن وحده في مواجهة حرب إقليمية، لم تتوقَّف شراراتها عن التطاير لتنال من الداخل، وأزمة إقتصادية خانقة مُضاعفة، بفعل ارتفاع نسبة اللجوء إلى أرقام خرجت عن السيطرة الرسمية من جهة، وفتح سوق عكاظ سياسي تجاه دول شقيقة وصديقة بات يهدِّد مصالح مئات الآلاف من اللبنانيين، وبالتالي مالية الوطن الصغير برمّتها.
إنها ليست أزمة صحافة وحسب، إنها أزمة وطن بات أشبه بسفينة غاب عنها الربَّان، واستلم قيادتها أكثر من فريق، يُحاول كل فريق منهم أخذها للوجهة التي تُناسبه، وهي تتخبَّط في عين العاصفة، دون خارطة واضحة محاولة الوصول إلى شاطئ الأمان..
ولا بدّ للدولة أن تتحمَّل مسؤوليتها في حماية هذا القطاع الحيوي، وتقدِّم الدعم الضروري لاستمراره، أسوة بالقطاعات الأخرى عند مرورها بأزمات، حتى لا تتفاقم البطالة، وتتحوَّل ذاكرة الوطن إلى ذكرى جميلة من الزمن الجميل!