السيناريو الأكثر تداولاً حيال مقاربة واشنطن للوضع الداخلي، هو أن الفريق الأميركي الذي يتولى متابعة لبنان، رسم خطة عمل استراتيجية، تقضي بمزيد من الضغط المالي والاقتصادي والعسكري، لتعزيز الفصل بين حزب الله وحلفائه ــــ وفي مقدمهم رئيس الجمهورية العماد ميشال عون والوزير جبران باسيل ــــ وبين خصومه. ويتمحور هذا السيناريو حول رفع مستوى الضغوط المالية والاقتصادية، وعدم السماح للجهات المالية الدولية بتقديم أي مساعدة، في مقابل تركيز على ضرورة القيام بالإصلاحات المطلوبة داخلياً، وهو ما جرى التعبير عنه في مؤتمر باريس، والتصريحات الأميركية. فيما يكثر الكلام أميركياً عن ربط الانهيار المالي في لبنان بسوريا وانعكاسه مزيداً من تدهور الوضع السوري المالي والاجتماعي والأمني. وهذا يعطي فرصة لواشنطن لمزيد من الضغط، وخصوصاً في ضوء انفلات الأوضاع في لبنان والعراق في وقت واحد. ويتعزز هذا السيناريو في اتجاه أمرين حساسين: العقوبات التي بدأتها واشنطن، وتلوح بها منذ فترة غير قصيرة، ويجري الحديث تصاعدياً عن إمكان تشددها واقترابها من دوائر لبنانية رفيعة؛ والضغط على الجيش اللبناني في محاولة لتقليص ما يسميه نافذون في واشنطن بنفوذ حزب الله فيه.
الواقع أن الكلام عن علاقة الجيش بحزب الله ليس جديداً في الأوساط الأميركية الرسمية، وفي مراكز استراتيجية تعنى بهذه الملفات، ويعود الحديث عنه ليتكرر مع كل كلام عن مساعدات أميركية أو حتى في أحسن الأحوال عند احتدام أي ظروف حساسة كالتي يمر بها لبنان حالياً. وقد ظل الجيش، الى جانب مصرف لبنان المحورين اللذين تعوّل عليهما واشنطن في تعاملها مع الوضعين الأمني والمالي، وخصوصاً أنها ركزت جهدها في السنوات الأخيرة على تعاون حيوي مع الجيش في موضوع الإرهاب.
مع اندلاع التظاهرات وتزامنها مع إرباكات المصارف والانهيار المالي، فقد مصرف لبنان جزءاً من هذه الرعاية بعدما نظر إليه على أنه مساهم مع المصارف في انهيار الوضع النقدي والتسبب بخسائر المودعين. في موازاة ذلك، تعاملت الدوائر الدبلوماسية الغربية مع أداء الجيش في الأسابيع الأولى بإيجابية ناجمة عن عدم تعرضه للمتظاهرين، وحثّها له بضرورة عدم استخدام القوة في فتح الطرق. في مقابل كلام عن اعتراض رئيس الجمهورية والوزير جبران باسيل وحزب الله على أدائه، ولا سيما لجهة تمنعه عن فتح الطرق بالقوة وتحميله مسؤولية بعض الثغَر في التجمعات والتظاهرات. هذا الأداء انقلب في الأسابيع الأخيرة بعد حادثة جل الديب مثلاً، ولم ينفع تبرير الجيش لتصرفات ضباط وعسكريين إفرادياً بأن المشهد لم يصب لمصلحته، بل إنه يمكن أن يكون قد ساهم في تعزيز التخوف من تحوله أداة للسلطة في قمع معارضيها.
مع استقالة الرئيس سعد الحريري وتسمية الدكتور حسان دياب لرئاسة الحكومة، طرح وضع الجيش على محك التساؤلات، بعدما كانت التظاهرات قد أزاحت جانباً العلاقة المتوترة بين قيادة الجيش ومديرية المخابرات من جهة، والقصر الجمهوري والتيار الوطني من الجهة الأخرى، ورغبة رئيس التيار بتبديل في الموقعين، وتسمية خلف لقائد الجيش العماد جوزف عون أو على الأقل لمدير المخابرات العميد طوني منصور الذي تنتهي ولايته بعد سنة، علماً بأن أوساط التيار حملت في الآونة الأخيرة أكثر من مرة على أداء المخابرات في طرابلس وبيروت والطريق الساحلي في المتن والشوف. فهل يمكن للحكومة الجديدة أن تبدأ أولى مهماتها بإحداث تغيير على هذا المستوى؟ وما هي نتائجه؟
في عز الأزمة الحكومية والتظاهرات، تكثفت الزيارات الدبلوماسية الغربية الى اليرزة، والتأكيد على استمرار دعم الجيش أميركياً ودولياً. لم تبد هذه الدوائر امتعاضاً من إدارة الجيش لانتشاره وتصرفاته على الأرض بحسب المعلومات الأمنية، لأن ثمة تفهماً لواقع الأرض والصعوبات التي يواجهها الجيش لأول مرة في تجربة لم يألفها سابقاً. هذه اللقاءات عكست اهتماماً متقدماً بواقع الجيش في أزمة مالية وأمنية وسياسية ترتدّ عليه حكماً، وتمحورت الأسئلة حول كيفية تقديم المساعدة لتخفيف الأعباء.
في المقابل، لا يقتنع أي فريق سياسي بأن أداء الجيش في هذه المرحلة نابع من اعتبارات عسكرية حصراً، بل إن هناك اعتبارات سياسية تتخطى واقع العمل العسكري على الأرض إلى الكلام عن خلفيات رئاسية وراءها، ولا سيما بعد ملاحظات متبادلة بين الجيش والقصر الجمهوري والتيار الوطني. وضْعُ الأخير لائحة أسماء ضباط ليكونوا جاهزين لتحمل مسؤوليات جديدة لم يعد كلاماً في الهواء. إضافة الى أن الحديث كَثُر عن ملاحظات أبداها أيضاً حزب الله على أداء المؤسسة، يقترب من حد أن الحزب سيوافق حتماً على أي تغيير مقترح على مستوى الجيش في الحكومة الجديدة.
من المبالغة الكلام عن انتقاد حزب الله، كقيادة مركزية، لأداء الجيش
لكن هذا كله في سلة والمعطيات الواقعية في سلة أخرى. في هذه المرحلة الحساسة، وفي ضوء الضغوط التي يتعرض لها لبنان أميركياً ودولياً، تكثر الأسئلة عن دور الحكومة الجديدة، وشكلها والاتجاه الذي تسلكه كحكومة لون واحد ومواجهة أو حكومة حيادية لفترة انتقالية. إذا نالت الحكومة الثقة، فإن مهمتها الأساسية التي أتت من أجلها تحت ضغط الشارع، هي محاربة الفساد ووقف التدهور المالي ومعالجة أسباب الانهيار. فهل يمكن هذه الحكومة أن تلجأ تحت أي حجة الى افتعال خضّة في الجيش من دون أي مبررات، وتزيد من الضغوط الداخلية؟ إضافة الى أن المنحى الحالي للأحداث من لغة طائفية ومذهبية يطرح إشكالات أخرى وتحديات أمام القوى السياسية والأمنية لملاحقتها وتطويقها بدل الدخول في لعبة تصفية حسابات. وقد دلت الإشكالات في الأيام الأخيرة على ضرورة تضافر الجهود السياسية والأمنية لسحب ذيول هذه الإشكالات. وهذا يعني أن الأولويات الحالية تتعلق بلمّ الفتنة الداخلية وعدم التصعيد الداخلي. ثانياً، يعرف حزب الله وكل القوى السياسية كيفية تعاطي الجيش مع الأميركيين الذين يقدمون مساعدات دائمة وجوهرية له، والأميركيون أكدوا أكثر من مرة ثقتهم بالقيادة الحالية وبأدائها على الأرض. فهل يمكن أن تقف أي حكومة حالياً في مواجهة مفتوحة وحادة الى مستوى طرح تغيير قائد الجيش في هذه المرحلة الحساسة؟ أما الاستعاضة من أي فريق بالمطالبة بتغيير مدير المخابرات، فهذا قرار بيد قائد الجيش وحده وهو أمر غير مطروح نهائياً بالنسبة إليه، «مهما كلّف الأمر». ثالثاً، إن الجيش لم ينكر مرة واحدة علاقته بحزب الله كقوة سياسية، ومن المبالغة الكلام عن انتقاد الحزب كقيادة مركزية لأداء الجيش، وخصوصاً في المرحلة الأخيرة. الكلام مع حزب الله دوري ومتواصل، وخصوصاً في كل ما يتعلق بالوضع الداخلي، أسوة بكل القوى السياسية. أما الكلام الأميركي عن طلب المواجهة مع حزب الله، فهو أمر سبق أن سمعته القيادة الأميركية المعنية بأن هذا الأمر غير وارد، لا سابقاً ولا حالياً ولا مستقبلاً، وهو أمر تكرر قوله في واشنطن وفي بيروت مرات عدة. رابعاً، هناك انتظار جدي لمعرفة اسم وزير الدفاع في الحكومة الجديدة. بعد التجربة الراهنة مع وزير الدفاع الحالي، صارت الحاجة ماسة أكثر الى تعبيد الطريق أمام عودة الاستقرار بين جناحَي اليرزة. وهذا أمر في عهدة رئيس الجمهورية.