يمكن الركون بهدوء ويقين إلى استنتاجين كئيبين: الأول أن موسكو تكذب في شأن مواقفها السورية، والثاني أن واشنطن تكذب أكثر.. في الشأن ذاته!
وبين كذب الإدارتين تكاد سوريا أن تضيع تماماً، وتصل نكبة أهلها إلى ذرّى مستحيلة!
والتوضيح واجب: الكذب والسياسة صنوان لا يفترقان! والفارق في تلك المذمّة، بين المستوى الشخصي المتصل بالعلاقات بين الناس والمستوى العام المتصل بالدول ومصالحها، هو ذاته الفارق بين الفضائل الحميدة وضرّتها الخبيثة. سوى أن الشأن العام له فروضه وقوانينه التي لا تلحظ كثيراً أو قليلاً، قصة الأخلاق ومكارمها، بل تضع المصالح أساساً لا يعلو عليه شيء!
ويتذكر كثيرون في بيروت أيام كانت مأخوذة بحضور القضية الفلسطينية في رأس أولوياتها، أن الرئيس الراحل ياسر عرفات سئل مرّة عمّا إذا كان يكذب؟ فأجاب على طريقته وبكل ثقة تليق بالرجال الرساليين: من أجل فلسطين مستعد لأن أقتل بيدي وليس أن أكذب فقط!
ومع ذلك، فإن العلاقات بين الدول لا تحتمل انعدام الصدقية عند قادتها. وتحتاط لذلك بالكثير من التوثيق والتسجيل والوقائع والتواقيع، وتأخذ في الاعتبار أن البعض على هذا المستوى يأخذ من الخديعة عدّة سياسية كاملة، تماماً مثلما يفعل قادة الجيوش في الحروب الفعلية.. بحيث أن هذه المثلبة تصبح دليلاً على النباهة وليس العكس، خصوصاً إذا أوصلت إلى الانتصار! ولذلك يكثر الحذر والتدقيق ويُعطي أوصافاً نخبوية تسمى «اتفاقات» و«معاهدات».. إلخ!
.. موسكو تكذب في سوريا من دون أي ضوابط، وعلى كل المستويات تقريباً، وتحديداً عندما تُكثر اللغو بــ«الحل السياسي» فيما هي تفعل كل شيء على طريق «الحل العسكري». وعندما تقول (مثلاً) إن طائراتها لا تستهدف البنى التحتية المدنية، ولا تقصف مدنيين وأحياء سكنية ومستشفيات ومدارس وطرقات ومخابز. وعندما تقول إن لا فرق بين «معتدلين» و«إرهابيين» وإن كل من يحمل سلاحاً في وجه بقايا سلطة الرئيس السابق بشار الأسد هو «إرهابي»! وعندما تفترض فوق ذلك كله أن الأسد رئيس «مُنتخب» وأن أعداءه انقلابيون! وعندما تقول راهناً إن العملية السياسية عُلّقت حتى إشعار آخر لأن واشنطن فشلت في فرز الفصائل المقاتلة في شرق حلب! في حين (كما سلف القول) هي التي لا تفرّق أصلاً بين هؤلاء. بل أكثر من ذلك، تعتبر أن سوريا يجب أن لا تُحكم من قِبَل أكثريتها المسلمة! على ما أبلغ سيرغي لافروف بنفسه وفداً وزارياً خليجياً زار موسكو مرّة بحثاً عن موقف حق في وجه طاغية جائر!
وواشنطن تكذب عندما تكثر اللغو بقيم الحرية وحقوق الإنسان عموماً! وعندما تُكثر من بيانات الإدانة والاستنكار لما تفعله موسكو في سوريا خصوصاً، فيما هي باعت السوريين بأثمان بخسة إلى إيران ثم إلى صاحب الكرملين في مقابل مشروع «القنبلة النووية» أولاً، ثم في مقابل إرضاء بعض طموحات الإحيائي الروسي وإبعاد أنظاره عن المنطقة الأوروبية ثانياً!
وواشنطن (أوباما) تكذب لأنها تدّعي محاربة الإرهاب لكنها تستعين بدولة راعية للإرهاب مثل إيران! ولأنها تدّعي فذلكات «عميقة» لتبرير مواقفها وتتجاهل أخطر مُعطيين يستند إليهما كل عدمي عبثي أصولي لتبرير إرهابه: المشروع الإيراني القومي – المذهبي، وإسرائيل!
.. وتكذب أكثر عندما تقول إنها تريد حلاً سياسياً في سوريا، لأنها تعرف (ومستحيل أن لا تعرف) أن أي «حل» مع الأسد والإيرانيين (والروس) لا يمكن أن يركب من دون كسر هؤلاء ميدانياً! وتعرف تماماً أن التركيبة الأسدية/ الإيرانية تحديداً لا تريد شيئاً سوى الكسر التام لعموم السوريين! وأن ذلك هو عصب مشروع «الهلال» المذهبي الممتد من طهران إلى بيروت!
ومع ذلك، فإن ما لا تستطيع واشنطن (أوباما) أن تكذب فيه، هو أنها لا تستطيع مهما فعلت، أن تقلب حقائق هذه المنطقة، بالديموغرافيا والجغرافيا طالما أن الوعي الأكثري المضاد يرسم خطاً عريضاً (جداً) لا يمكن أحدٌ أن يتخطاه بالهين! لا في سوريا ولا في اليمن ولا في العراق.. ولا في تركيا!