مرحلة جديدة إنفتحت… البقاء يتطلّب مقايضة السلطة على الأولويات
بكلفة باهظة استطاعت سياسة “تأجيل الإنفجار”، تمرير ما يقارب السنة و4 أشهر. إلا ان “مغّيطة” الدعم التي شارفت على الإنقطاع، والإنهيار المتواصل في القدرة الشرائية، شكلا جرس إنذار أخيراً حول عدم استدامة السياسة المتبعة. ما يفرض في المقابل اتخاذ تدابير منطقية تجنب البلد ما هو أسوأ بكثير في الأيام القادمة.
لغاية اليوم لم تسجل أسعار بعض الخدمات الأساسية ارتفاعات كبيرة. ونسبة الإنفاق على السكن والصحة والتعليم، التي تشكل 43 في المئة من موازنة الأسر، لم ترتفع لغاية نهاية العام الماضي إلا بمتوسط 13.6 في المئة. حيث لحظ مؤشر أسعار الاستهلاك الصادر عن إدارة الإحصاء المركزي للفترة الممتدة بين تشرين الأول 2019 وتشرين الأول 2020، زيادة محدودة في أسعار هذه الخدمات بالمقارنة مع بقية السلع. وبالأرقام، فان كلفة السكن المقسمة على أبواب الإيجار، القيمة التأجيرية، الماء، الغاز، الكهرباء والمحروقات ارتفعت في هذه الفترة بما يقارب 13.4 في المئة. وارتفع الإنفاق على الصحة والتعليم بنسبة 17.3 في المئة و10.3 في المئة على التوالي. في حين سجل مؤشر “المواد الغذائية والمشروبات غير الروحية” زيادة بنسة 424 في المئة في الفترة نفسها. وهذا يعود الى تقاضي بدل هذه الخدمات بالليرة اللبنانية على سعر صرف 1515، واستمرار مصرف لبنان في دعم استيراد المحروقات والدواء وبعض السلع الغذائية.
أسعار المحروقات والدواء ما زالت من الأدنى
هذا الواقع لا يعكس بحسب “مرصد الأزمة” في الجامعة الاميركية، تدهور القيمة الشرائية الفعلية، أقله حتى الآن. فالمقاربة التبسيطية لتدني الرواتب في لبنان حسب سعر الصرف الموازي مقارنة مع دول اخرى تبين لـ”المرصد” أن أسعار السلع الأساسية كالمحروقات والدواء، أصبحت الأدنى مقارنة مع الدول المجاورة. فعلى سبيل المثال كلفة ليتر واحد من البنزين في لبنان هي 0.16 دولار مقارنة بـ 0.27 دولار في سوريا، و 0.54 دولار في كل من مصر والامارات العربية المتحدة، و0.99 دولار في تركيا. اما علبة البانادول (500 ملغم 24 حبة) فسعرها 0.35 دولار في لبنان، مقارنة بـحوالى 2 دولار في مصر و2.72 دولار في الامارات العربية المتحدة. هذا مرده للدعم الحاصل من قبل مصرف لبنان حيث يغطي بين 85 و90 في المئة من قيمة مشتريات المحروقات والدواء. إلا ان “رفع الدعم سريعاً وبشكل كلي سيؤدي إلى تلاشي القدرة الشرائية للمواطنين”، يقول أستاذ السياسات والتخطيط في الجامعة الأميركية في بيروت ناصر ياسين، الذي يشرف على “المرصد”. فعلى الرغم من كل تشوهات الدعم الذي استنفد حوالى 5 مليارات دولار من الاحتياطي في عام واحد، “فقد أمّن الدعم نصف احتياجات العائلات من السلع والخدمات الأساسية، أقله خلال العام الماضي”، يقول ياسين، “وذلك قبل ان تعود وتشهد أسعار بعض الخدمات الصحية ارتفاعات إضافية مطلع هذا العام، بسبب التسعير على أساس 3900 ليرة”.
بدائل عملية
بعد الأزمة تدنى المعدل الوسطي للرواتب في القطاعين العام والخاص إلى حوالى 180 دولاراً فقط؛ 43 في المئة منه ما زال يصرف على أكلاف مدعومة. وفي حال التوقف عن دعم الدواء والمحروقات وتحول بقية الخدمات إلى سعر السوق الموازية، فان مجمل الراتب لا يعود يكفي لتأمين المأكل والمشرب. و”ستنهار القدرة الشرائية كلياً”، بحسب ياسين. “من هنا اقترحنا في “المرصد”، بعض البدائل التي من الممكن اللجوء اليها لتأمين توازن ما بين الاحتياطي وقدرة المواطنين الشرائية، ومنها:
– إعادة النظر في طريقة الدعم الحالية، لشركة الكهرباء، البنزين والدواء.
– الإستمرار في دعم مادة القمح نظراً لأهميتها بالنسبة الى الأمن الغذائي.
– ترشيد دعم مادة المازوت مع امكانية اعتماد سعر للدولار يوازي السعر المعتمد على منصة المصارف.
– تعزيز كفاءة القطاع الحكومي/الرسمي في مجالي الصحة والتعليم وتطوير قدراته لاستيعاب اعداد كبيرة من اللبنانيين الذين سيلجأون اليها، والعمل الدؤوب مع المؤسسات الدولية لزيادة دعمها لهذين القطاعين.
– الدعوة بسرعة الى جلسة عامة لمجلس النواب لإقرار القرض المقدم من البنك الدولي من اجل البدء بدعم مالي مباشر لحوالى ثلث اللبنانيين، لتغطية جزء من نفقاتهم الاساسية كي لا يسقطوا بالعوز الشديد.
– تجميد العمل او إلغاء قانون الوكالات الحصرية من قبل مجلس النواب من أجل وقف الإحتكارات وتعزيز المنافسة، مما سيساعد بخفض الأسعار.الحلول… آنية
هذه الحلول الجزئية في مرحلة إدارة الازمة التي “تجبرها من ميل وتكسرها من الميل الاخرى”، تبقى آنية ريثما يظهر الحل الشامل والمتكامل، والذي “لا يمكن أن يكون منفصلاً عن الاتفاق مع صندوق النقد الدولي”، بحسب ياسين. “فحتى مشروع وزارة الاقتصاد لمساعدة أغلبية العائلات اللبنانية بشكل مباشر بعد رفع الدعم ستكون له نتائج سلبية، خصوصاً أن التمويل لن يكون من الموازنة العامة بل من المتبقي من احتياطي في مصرف لبنان”. وعليه يعتبر ياسين أن “الحل المتكامل يقضي بوضع خطة مالية اقتصادية واستئناف المفاوضات مع صندوق النقد الدولي. فالدعم المالي يؤمن استقراراً أولياً، ويهدّئ سعر الصرف ويفسح المجال لتصويب الخطط والمقترحات والبدء بالتنفيذ”.
صحيح أن لبنان ليس البلد الوحيد الذي يصاب بأزمة مالية، إنما قد يكون الدولة الوحيدة التي لم تفعل أي شيء يذكر لوقف الإنهيار بعد أكثر من سنة على اندلاع الأزمة. فـ”السلطة عجزت عن إجراء أقل المطلوب لجهة إقرار قانون الكابيتال كونترول واعادة هيكلة القطاع المصرفي والبدء بالتدقيق الجنائي، وإقرار بعض التشريعات والقوانين لجذب تعاون الصندوق. “فبقيت كل المشاكل معلقة”، بحسب ياسين، “وهو ما يثير المخاوف من أن تكون هذه العملية مقصودة للتعطيل ودفع البلد إلى الإنهيار”. وبرأيه “يتوجب على السلطة أن تصارح المواطنين بحجم المأزق وإطلاعهم على ما ينتظرهم في القادم من الأيام. حيث سيتوجب عليها في المرحلة القادمة المقايضة في ما ستقدمه من واجبات تجاه المواطنين، وستضطر إلى تقديم أولويات على حساب أخرى. كأن تستمر مثلاً بدعم التعليم الرسمي على حساب الكهرباء. أو تبقي على دعم المازوت على حساب رفع الدعم عن البنزين… وهكذا دواليك”.
خطة الانقاذ إن بدأت لن تنتهي في ظرف سنة، بل ستكون عبارة عن مسار طويل ومتعرج من النجاحات والإخفاقات. ولعلّ أول ما تتطلبه هذه الخطة هو عودة الثقة بين الشعب والسلطة الحاكمة والسماح للمسؤولين باتخاذ التدابير الكفيلة بانقاذ البلد مهما كانت قاسية. وهذا ما قد يكون أصعب الشروط وأعقدها.