أخذت الحرب القائمة في قطاع غزّة منحًى جيوسياسيًا واستراتيجيًا منذ اندلاعها في تشرين الأول 2023. فقد حشدت القوات الغربية أساطيلها وغواصاتها في البحر الأبيض المتوسّط والبحر الأحمر، تحسبًا لتوسّع رقعة الصراع بين العدو الإسرائيلي وحركة حماس وشمولها دولا إقليمية أخرى وعلى رأسها إيران.
لكن هذا الحشد لم يمنع إيران أول من أمس من ضرب «إسرائيل» بمئات الصواريخ والمسيرات ردًا على الهجوم «الإسرائيلي» على السفارة الإيرانية في دمشق. وإذا كان العالم ينتظر ردّ «إسرائيل» على الهجوم الإيراني، فإن التعزيزات العسكرية تزيد يوما بعد يوم في المنطقة، مع وجود غربي طاغٍ على القوى الشرقية. وإذا كانت الشكوك تحوم حول ردّ «إسرائيلي» مباشر ومشابه للذي قامت به إيران السبت الماضي، إلا أن توقّعات المحللين العسكريين تُرجّح أن يكون الردّ «الإسرائيلي» في سورية أو العراق أو لبنان، من دون احتكاك مباشر مع الإيرانيين ، نظرًا للتداعيات العسكرية ولكن أيضًا الاقتصادية.
التوترات الجيوسياسية في المنطقة أدّت إلى ارتفاع أسعار النفط منذ السابع من تشرين الأول 2023 (تاريخ هجوم حماس على غلاف غزّة). فقد أدّت المخاوف من توسيع رقعة الصراع وتقليص إنتاج النفط المُقرّر من دول الأوبك + إلى الحفاظ على مستويات لبرميل البرنت بحدود الـ 80 دولارًا للبرميل الواحد. إلا أنه ومع إزدياد حدّة الصراع في غزّة، والضربات التي وجهها الكيان «الإسرائيلي» لأهداف في سورية وداخل لبنان (إغتيالات وقصف)، عبّرت عن رغبة لدى العدو في توسيع نطاق الصراع (أغلب الظن لإشراك الولايات المتحدة الأميركية)، أخذت أسعار النفط بالارتفاع منذ منتصف الشهر الأول من هذا العام، حتى وصل برميل البرنت إلى 91.14 دولارا أميركيا في الخامس من الشهر الجاري، ليُسجّل بذلك أعلى ارتفاع له منذ ستة أشهر.
ويوم الجمعة الماضي، أي قبل الهجوم الإيراني على «إسرائيل»، تحرّك سعر برميل بحر الشمال في هامش 90.01 – 92.18 ، على وطء أخبار عن ضربة إيرانية لـ «إسرائيل»، ليُعاود الإقفال على سعر 89.74 يوم الجمعة. وهنا يُطرح السؤال: على أي سعر سيفتتح التداول في أول الأسبوع؟ الجواب بالطبع رهينة الردّ «الإسرائيلي»، بحكم أن إيران أعلنت أنها أنهت الضرب، ولكن أي ردّ «إسرائيلي» سيقابله ردٌ أقسى من السابق.
المخاوف تتضمن احتمال انقطاع الإمدادات، ومشاكل محتملة في سلسلة التوريد، وارتفاع الأسعار إذا تفاقم الوضع أكثر. فتأثير الصراع «الإسرائيلي» – الإيراني، مع اشتراك أكيد لأساطيل وقواعد الغرب الموجودة في المنطقة لمصلحة «إسرائيل»، خصوصًا أن دول الخليج العربي واقعة جغرافيا بين إيران و»إسرائيل»، وبالتالي هناك مخاوف حقيقية من انقطاع للإمدادات قد يؤدي إلى ارتفاع كبير في الأسعار.
وبالتالي، فإن احتمال وجود ردّ «إسرائيلي» على الهجوم الإيراني سيزيد حكما من الضغوط على أسعار النفط، في ظل توقعات سلبية لنمو الطلب العالمي على النفط من قبل وكالة الطاقة الدولية، ومخاوف بشأن تباطؤ تخفيضات أسعار الفائدة الأميركية. هذا الارتفاع إذا حصل سيؤدّي إلى رفع كلفة الفاتورة الحرارية على الاقتصاد، وسيزيد حكما من التضخّم ، في وقت تسعى فيه المصارف المركزية في العالم إلى خفض أسعار الفائدة بهدف تحفيز الاقتصاد.
لكن السؤال الأهم الذي يجول ببال الاقتصاديين هو عن السعر الذي قد يصل إليه برميل النفط في حال تحقق سيناريو الردّ «الإسرائيلي» على الهجوم الإيراني؟ الجواب بحسب النماذج الاقتصادية هو بحدود الـ 100 دولار أميركي (Most likely) كحدٍ أدنى. وهذا ما سيؤدّي إلى تعقيدات اقتصادية حول العالم أجمع، من تضخّم وارتفاع الكلفة على الاقتصاد وارتفاع في أسعار المواد الأولية الأخرى والمواد الغذائية. من هذا المُنطلق نرى أن الرد «الإسرائيلي» إذا حصل لن يكون مباشرا – أي مواجهة مباشرة مع إيران – بل سيكون غير مباشر مع استهداف لمناطق في لبنان وسورية، وربما في بعض الدول الأخرى كاليمن أو العراق. هذا الرأي مدعوم بحجة أن تأجيج الوضع سيؤدّي إلى رفع تكلفة سعر صفيحة المحروقات في الولايات المتحدة الأميركية، وهو ما سيؤدّي إلى غضب الناخب الأميركي الذي سيصبّ حكما لمصلحة ترامب في مواجهته الرئاسية مع بايدن. وبالتالي نتوقّع أن تضغط إدارة بايدن على «إسرائيل» لعدم الردّ المباشر.
لبنان مستهلك للنفط، وأي ارتفاع في أسعار هذا الأخير، سينعكس تلقائيًا ارتفاعًا في أسعار المحروقات، وإستطرادًا أسعار كل السلع والمواد الغذائية والأوّلية، وهو ما سيؤدّي بدوّره إلى تراجع في القدرة الشرائية لدى المواطن اللبناني. وإذا كانت حكومة تصريف الاعمال تعقد اليوم جلسة طارئة لبحث التطورات الأخيرة، إلا أنها لا تمتلك فعليا أي هامش للتحرّك مع كمّية محروقات موجودة في الأسواق اللبنانية، لا تكفي لأكثر من اسبوع كأبعد حد! وبالتالي فإن أي تصعيد إضافي للوضع القائم سيؤدّي حتمًا إلى تردّي الوضع الاقتصادي أكثر فأكثر ممّا هو عليه الآن، وسيزيد من تعقيدات أي عملية إصلاحية نظرا لربط الحلول السياسية والاقتصادية بنهاية الحرب في غزّة.
لبنان ليس الوحيد المُتضرّر من التطور الأخير والمخاوف من تأجّج الوضع بين إيران و «إسرائيل»، بل إن معظم البلدان في مختلف أنحاء العالم تُاقب الوضع عن كثب، نظراً لتداعياته على الاستقرار الإقليمي وأمن الطاقة العالمي، وعلى حياة المواطن في كل الدول.
لكن في ظل هذا الإطار الأسود، هناك من سيستفيد من تردّي الوضع القائم وخصوصا الصناعة النفطية الصخرية في الولايات المتحدة الأميركية، حيث من المتوقّع مع ارتفاع أسعار النفط العالمية أن يزيد عدد حفّارات النفط الصخري، مع ازدياد هامش الربح لدى منتجي النفط الصخري، وهو ما يضع سقفا لسعر برميل النفط لا يمكنه تخطّيه، خصوصًا أن الطلب العالمي ضعيف نسبيا.
في الختام، استطاعات الصراعات السياسية والعسكرية أن تتغلّب مرّة أخرى على الإرادة الاقتصادية، وها هو الاقتصاد العالمي يعاني وسيعاني من زيادة الصراعات في العالم، تارة من باب أسعار النفط وطورا من باب أسعار المواد الغذائية والتضخّم. فهل سيتم لجم المواجهة العسكرية بين إيران و «إسرائيل»؟ أم أن الساعات والأيام المقبلة ستحمل في طياتها تصعيدا يكون كارثيا على حياة المواطن؟