IMLebanon

بريماكوف… مرجع الدبلوماسية ونصير العرب في «الخارجية الروسية»

قلّما تجد في روسيا الحديثة والمعاصرة مَن تقلّب في المناصب كرئيس الوزراء السابق الراحل يفيغيني بريماكوف. فعلى رغم الألقاب الكثيرة والتسميات التي حظي بها، إلّا أنّ اللقب الأبرز الذي رافقه دائماً وطبع مسيرته هو لقب «العائد من رحلة فوق الأطلسي»، نسبة الى القرار الجريء بإلغائه الزيارة التاريخية الشهيرة الى الولايات المتحدة عام 1999، إثر تلقّيه وهو في الجوّ على متن طائرته نبأ بدء «حلف الأطلسي» قصف يوغوسلافيا.

هذا عدا أنّ بريماكوف كان آخر ديبلوماسيّي العالم الذين قابلوا الرئيس العراقي الراحل صدام حسين، ناصحاً إياه وبحكم صداقتهما الخروج من السلطة إنقاذاً للعراق وللشعب العراقي، كما كان الأكثر تشدّداً في نظرته الى مسألة ضمّ القرم عام 2014 واعتبارها خطوة واقعية وضرورية ومُلّحة كان يجب أن تُتخذ.

هذا غيض من فيض، جعل من الرجل الأكثر احتراماً، ويحظى بمكانة مرموقة بين السياسيين الروس الذين غرقوا في الفترة الأخيرة في وحول السلطة ومفاسدها، ما أبعده عن كلّ الشبهات، لذلك اعتُبر من السياسيين النادرين الأكثر إحترافاً والأكثر حنكةً.

لا شكّ أنّ الرجل كان وطنياً متعصباً وحريصاً على سمعة دولته ومكانتها في العالم، أينما حلّ، سواءٌ في عمله في وزارة الخارجية، أو في رئاسة الحكومة، أو تربّعه على عرش جهاز المخابرات العامة، أو عندما ترأس غرفة التجارة العامة.

الى كلّ هذا الرصيد، يُعتبر بريماكوف مرجعاً مهماً في ما يتعلّق بسياسة الإتحاد السوفياتي ومن ثمّ روسيا في العلاقة مع العالم العربي، ذلك لما كان له من علاقات شخصية جمعته وكثير من الزعماء والملوك العرب، حتى إنه كلّف بأن يكون مبعوثاً خاصاً للرئيس بوتين لتولّي المفاوضات مع صدام حسين، نظراً لما كان يربط الرجلين من علاقة مودة وثقة متبادلة.

مهمةٌ وإن لم تفضِ الى حلّ شامل ولم تمنع الغزو الأميركي لاحقاً، إلّا أنّها اعتُبرت الأكثر تعقيداً، حيث وصفها بأنّها أكثر المهمات فشلاً نظراً للتصلّب العراقي أولاً، والتصلّب الدولي ثانياً، فظلّت نقطة سوداء طاردته في مسيرته.

لقد لُقّب «بالعربي» ونصير العرب في وزارة الخارجية الروسية، حيث كان الوحيد القادر على جمع اللاعبين بكلّ تناقضاتهم. فلقد كانت له إسهاماته في عقد الكثير من اللقاءات المهمة بين الأطراف المتخاصمين.

بين الفشل والنجاح، تأرجح بريماكوف مصارِعاً من أجل فكّ عزلة بلاده عن العالم الآخر، وهذا ما ساعده على اتخاذ الكثير من القرارات الصائبة، وتلك التي أثارت نقاشاً، خصوصاً اتهامه بقطع زيارته الشهيرة الى أميركا ما اعتبر ردة فعل روسية غير صائبة، انتقده عليها خصومه مروّجين لفكرة، أنّه فيما لو حصلت الزيارة لكان في الإمكان تجنّب الكثير ممّا أفرزته الحرب اليوغوسلافية.

تلك الحرب التي تركت نُدوباً عميقةً في جسد القومية الروسية التي تألّمت لمشاهد القصف الجوّي على بلغراد، بالتزامن مع شلل إقتصادي، ووقوع روسيا تحت تداعيات سياسة بوريس يلتسين التي وُصفت باللامتوازنة واللاعقلانية، فيما اعتبرها آخرون خطوة ديبلوماسية نادرة، أقدم عليها أعتق رجال الديبلوماسية الروسية، منذ أندريه غروميكو. هي لأجل ذلك لا تزال تُدرَّس في المعاهد الروسية وفي وزارة الخارجية بأنّها أقسى إشارة ديبلوماسية على الإطلاق.

إنّ هذه العَراقة السياسية جعلت منه أيضاً مرشحاً للرئاسة أولاً، ثمّ المرشح الأوحد لترؤس الحكومة في فترة الأزمة العصيبة التي مرت بها روسيا في عام 1998، في مرحلة كانت تحتاج الى مَن يتقن فنّ اللعبة السياسية وتدوير الزوايا، بين مطالب المعارضة المؤلفة من الشيوعيين وحركة «يابلوكو» في حينه، وممثلي معسكر اليمين أصحاب سياسة السوق الحرة، هذا التوازن مكّن الرجل من إبعاد شبح الإنهيار المحتّم.

في سياق تقييمه للأحداث المهمة التي عرفها القرن الماضي ومطلع هذا القرن يقول بريماكوف في حديث إذاعي: «هناك محطات مهمة غيّرت من جوهر نظرتي التقليدية لكلّ القضايا في العالم، أولها، «البريسترويكا» وما حملته من تحوّلات جذرية غيّرت وجهَ الكون وكسرت المجابهة بين معسكرين، بل إني أعتبرها نقطة التحوّل الإيديولوجية الهائلة في مسار حياتي».

وتابع: المحطة الثانية والمؤلمة، «عندما بدأت «البريسترويكا»، تراوح مكانها وتفقد طاقتها التغييرية، لقد أشعرني ذلك بأننا نخسر دولة عظمى – قوّة كامنة في تاريخنا، بدأنا نخسر الاتحاد السوفياتي… لقد ترك فيّ هذا الأمر جرحاً لا يزال يعتمل وسيبقى معي الى حين مماتي، نحن لم نعرف ماذا خسرنا والى أين وصلنا».

أما المرحلة الثالثة، فهي: «عندما اصبحتُ رئيساً للحكومة والبلاد امام كارثة كبيرة، كُلّ شيء معطّل، سكك الحديد متوقفة، المصانع تُباع وتُشترى، حركة التبادل والانتقال بين الجمهوريات ومع الخارج معدومة، لقد كنا أمام مخاطر المجاعة، على رغم كلّ ذلك سعيت وفريقي وبقوّة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه وتمكنّا من ذلك، وأخشى ما أخشاه أن لا يعود هذا الشبح الى روسيا».