كلما تراجع أردوغان خطوة إلى عهود الإستبداد باسم العثمانية الجديدة، تراجعت أوروبا خطوتين في قبول تركيا عضواً في اتحادها. وكلما استعاد أمجاد السلطنة عزل بلاده أكثر عن محيطها وعن العالم. أتى تصويت البرلمان الألماني منذ يومين، في شبه إجماع، على اعتبار المجازر التي طاولت الأرمن والأقليات المسيحية الأخرى، قبل مئة عام «إبادة جماعية» ليزيد هذه العزلة. والواقع أن الإبادة لم تطاول الأرمن وحدهم بل طاولت السريان والآشوريين والعرب في جنوب الأناضول، ولعب الأكراد دوراً كبيراً فيها بإشراف الجيوش السلطانية. لكن هذه مسألة أخرى في حاجة إلى بحث مفصل ليس مكانه هنا. أما رد رئيس وزرائه أبو علي يلدريم على القرار وتهديده بتحريك ثلاثة ملايين مهاجر تركي في ألمانيا فلن يؤثر في القرار التاريخي، فهؤلاء المهاجرون يحولون إلى تركيا ثروة ضخمة ويثرون مواردها، والمتضرر من تحريكهم لن تكون برلين بالتأكيد.
يتوهم أردوغان أن في استطاعته فصل السياسة عن الإقتصاد. هكذا هي علاقته بإيران. خلافاتهما السياسية تاريخية تتجدد (عدا أيام الشاه) لكنه يسعى إلى تعزيز العلاقات التجارية معها. يتدخل عسكرياً في العراق ويمتّن علاقاته مع أكراده من أجل نفط كركوك والشركات التركية العاملة في بلاد ما بين النهرين. يساعد في تدمير سورية على أمل الحصول على حصة كبيرة في إعادة إعمارها بعد الحرب. يريد تنصيب رئيس موالٍ له في مصر. يطور علاقاته العسكرية والأمنية والإقتصادية بإسرائيل، لكنه يدافع عن غزة. يستخدم المهاجرين البؤساء ورقة لابتزاز أوروبا وإكراهها على قبوله في اتحادها مقابل وقف الهجرة والحصول منها على بلايين الدولارات. هو يعمل بعقلية الوسيط التجاري، وليس بعقلية رجل الدولة. نجاحه الإقتصادي في الداخل كان على هذا الأساس.
ازدادت خلافات أردوغان الداخلية مع العلمانيين والحداثيين. زاد قمعه الصحافة والمعارضة. استخدم نفوذه لتوجيه القضاء واستصدار أحكام لـ «تأميم» الصحف. نقل ملكيتها إلى شركات يشرف عليها أصدقاؤه والمقربون منه، مثلما حصل لصحيفة «زمان»، ولرئيس تحرير صحيفة «جمهوريت» جان دوندار الذي قضت المحكمة العليا لمصلحته فوقف الرئيس ليعلن رفضه الحكم ويهدد القضاة، في سابقة تشير إلى أنه يتجه إلى تنصيب نفسه رئيساً مطلق الصلاحيات. ليست هذه الواقعة الوحيدة التي تؤكد هذا الاتجاه، فاستغناؤه عن رئيس وزرائه أحمد داود أوغلو وعلاقاته المتوترة مع الرئيس السابق رفيق دربه في تأسيس الحزب والوصول إلى السلطة عبدالله غُل مثالان ساطعان على هذا الاتجاه. أكثر من ذلك، استطاع الحصول من البرلمان على رفع الحصانة عن 138 نائباً، تمهيداً لانتخابات جديدة تؤمن له الأكثرية. أكثرية توافق على نظام رئاسي يتولاه بنفسه ليتخذ القرارات من دون العودة إلى ممثلي الشعب. ومنها، على سبيل المثال، إلغاء العلمانية، على ما قال رئيس البرلمان اسماعيل كهرمان.
يعزل أردوغان تركيا. يحيط نفسه بالموالين يسمعونه ما يريد. مثل أي رئيس شعبوي حاشيته لا تجرؤ على معارضته أو قول الحقيقة له. والحقيقة أنه أزال تعسف العسكر ليحل مكانه تعسف الأيديولوجيا الدينية. ويسرع في انتقال الحروب الطائفية والعرقية إلى تركيا. وها هم الأكراد يتحركون في هذا الاتجاه.