Site icon IMLebanon

رئيس «صنع في لبنان»… والمهجر!

خرج علينا بالأمس سياسي لبناني يفترض به أنه «حكيم» بتعليق احتفالي قال فيه إن الأزمة اللبنانية انتهت بتسمية رئيس «ُصِنع في لبنان»!

هذا التعليق مضلِّل بقدر ما هو مؤلم؛ ذلك أن السياسي الذيَخِبر السياسة اللبنانية حرًبا وسلًما٬ وعداواٍت وتحالفات٬ يدرك تماًما أن لبنان لم يحَظ في تاريخه برئيس انتخب من دون توافق خارجي٬ أو نتيجة اختلال معادلات دولية أو إقليمية. ولو كان للبنانيين حًقا كلمة مؤثرة في اختيار رئيسَلَما طال الشغوُر الرئاسي الراهن لنحو سنتين ونصف السنة٬ وَلَما كان هناك تفاهمات الدوحة وقبلها اتفاق الطائف٬ وقبلهما محاولة ريتشارد مورفي عام 1988 ومساهمة روبرت مورفي عام 1958.

واقع الأمر أن لبنان «مشروع وطن» – للأسف الشديد – لم يتحقق على الرغم من مرور 96 سنة على رسم حدود كيانه الحالي و73 سنة من نيله الاستقلال٬ والسبب أن الفلسفة التي قامت عليها الصيغة الاستقلالية تعاملت مع اللبنانيين كأفراد في قطعان طائفية لا كمواطنين. وبمرور الوقت٬ في غياب المواَطَنة Citizenship واستمرار الولاءات الدينية والطائفية تجّذرت ذهنية القطيع و«تمأسست».. أي غدت مؤسسة قائمة بذاتها. وحتى عندما حاولت القوى الحية في مختلف «القطعان – الملاذات» الثورة على هذا الواقع٬ توافر الكثير من العوامل الداخلية والخارجية لسحق كل تلك المحاولات.

اليوم٬ عندما يبشرنا البعض بالتفاهم على رئيس «صنع في لبنان» فإنه يتعمد تجاهل حقائق مهمة وغير مستساغة٬ تماًما كأولئك الذين كرروا أمام اللبنانيين طيلة السنتين الأخيرتين المقولة التافهة «أي رئيس يظل أفضل من استمرار الفراغ»! فواقع الأمر أنه لا يوجد «فراغ».. والذين يتكلمون عن الفراغ٬ أو بالأصح يتذرعون به٬ يتجاهلون الحقائق المهمة التالية:

أولاً٬ أن لبنان بلد يحتله فعلًيا «حزب الله»٬ وهو حزب ديني – عسكري مرتبط ارتباًطا عضوًيا بالخارج٬ ويتمتع بإمكانات أكبر من إمكانات الدولة اللبنانية التي يخترقها بحكم توزيع المناصب على أساسي طائفي… سياسيا وأمنًيا ومالًيا. وهذا الحزب يشكل اليوم جزًءا لا يتجزأ من منظومة إيران الإقليمية٬ ويأتمر بأوامرها وينفذ سياساتها في عموم منطقة الشرق الأوسط. وبالمناسبة٬ هذا الحزب بالذات٬ هو الذي عّطل انتخاب رئيس منذ سنتين ونصف السنة خصيًصا لكي يبتز اللبنانيين بمرشحه الذي يوصف الآن برئيس «صنع في لبنان»!

ثانًيا٬ أن لبنان٬ حتى قبل أن يغدو «دولة» عام 1920 ثم جمهورية مستقلة عام ٬1943 كان كـ«إمارة» تشغل أراضي جبل لبنان عرضة لصراعات النفوذ الإقليمية بين ولاة المناطق المحيط به في سوريا وفلسطين٬ بل ومصر أيًضا. ثم منذ قيام إسرائيل عام 1948 صار ملعًبا للصراع العربي ­ الإسرائيلي وتداعياته٬ مع ما لهذه التداعيات من تأثير على ُبنيته وتوافقاته السياسية الهشة. وحالًيا٬ في خضم إعادة النظر بخرائط المنطقة٬ لا يبدو أن لدى إسرائيل أي اعتراض على «احتلال» «حزب الله» الفعلي للبنان٬ ولا يظهر أنها قلقة من «الفراغ» المزعوم الناجم عن تعطيله انتخاب رئيس٬ والأهم من هذا وذاك٬ فهي غير متضايقة البتة من مساهمته – مع الميليشيات الطائفية الأخرى – باحتلال إيران مناطق واسعة من سوريا.

ثالًثا٬ بشأن محطة إيران٬ فإن منطقة المشرق العربي تعيش هذه الأيام مرحلة مفصلية تاريخية من صراع قومي يتزّيا زي الهويات الدينية المذهبية٬ تخوض فيه إيران حرًبا ثأرية شاملة ضد الإسلام السني العربي. وحتى اللحظة أدت هذه الحرب إلى تهجير ما يتراوح بين 15 و20 مليون سني عربي في العراق وسوريا٬ وتدمير مدنهم من الفلّوجة والرمادي إلى درعا٬ مروًرا بالموصل ودير الزور والرّقة وحلب وحماه وحمص وضواحي دمشق.

رابًعا٬ عطًفا على ما تقدم٬ يبدو الرئيس الأميركي باراك أوباما خلال الأسابيع الأخيرة له في البيت الأبيض متعّجلاً إكمال المهمة التي جعلها «حجر زاوية» سياسته الشرق الأوسطية. وهي كما تنّم الصفقة النووية مع طهران٬ إعادة تأهيل إيران والتطبيع السياسي معها٬ إن لم تكن جعلها حليًفا استراتيجًيا لأميركا وإطلاق يدها في الكيانات العربية المجاورة لها. ومن ثم٬ فليس من قبيل المصادفة «تذّكر» الحاجة لملء «الفراغ» في لبنان مع توقيت معركة الموصل التي تتوّقع الأمم المتحدة أن تسفر عن تهجير أكثر من مليون نسمة (جلهم من العرب السنة)٬ والسكوت على الإجهاز على حلب بواسطة نظام متهاٍو أنقذته مؤقًتا ميليشيات إيران٬ ثم التدخل الروسي٬ من السقوط.

نحن الآن٬ من دون تناسي ما يحدث في اليمن أيًضا٬ أمام حالة إقليمية أوصلتنا إليها قراءة معينة في واشنطن انعكست خلال ثماني سنوات على الكثير من القضايا الحساسة٬ ولا سيما٬ في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وأوروبا.

في أوروبا أرسل الانكفاء الأميركي إشارة واضحة إلى موسكو للتعامل كما تشاء في مناطق نفوذها التاريخي ابتداء من أوكرانيا. وكذلك سمح بتحّول كارثة إنسانية مثل تدفق اللاجئين إلى أوروبا إلى ورقة سياسية ضاغطة لعبت انتخابًيا لمصلحة الانعزاليين البريطانيين والقوى العنصرية واليمينية المتطرفة المعادية للمهاجرين – وبالذات٬ المسلمين – في فرنسا وهولندا وألمانيا وغيرها. وهذا الوضع أسهم في المقابل في تهيئة الظروف لرد فعل متطّرف غاضب٬ وأحياًنا إرهابي٬ عند أبناء الجيلين الثاني والثالث في أحياء المهاجرين المسلمين المهمشين.

وفي الشرق الأوسط وشمال أفريقيا كانت انعكاسات سياسات أوباما كارثية في أكثر من مكان٬ وعلى أكثر من صعيد٬ منذ خطابه الشهير في القاهرة٬ قبيل «الربيع العربي»

بمستهل فترته الرئاسية الأولى. وما بدا من أوباما مثاليات «بريئة» تجاه ملفات مثل فلسطين والتغيير الديمقراطي والإرهاب في تلك الفترة٬ تحّول في الفترة الثانية إلى سلبية لا أخلاقية مدمرة.. تمُثل نتائجها أمام أعيننا مع تمزيق العراق وتدمير سوريا٬ وتهديد تركيا ودول الخليج وتصفية قضية فلسطين٬ وتأجيج الفتنة السنية – الشيعية وصِّب الزيت على نار العداوات العربية – الفارسية والتركية – الكردية

بعد كل هذا٬ كيف سيقتنع اللبنانيون٬ الذين فشلوا في صنع وطن بأنهم استطاعوا «صنع رئيس»؟!