Site icon IMLebanon

هل تنجح المعارضة في التكليف؟

 

 

تتركّز الأنظار على استحقاق التكليف، وما إذا كانت مكونات المعارضة التعددية ستنجح حيث فشلت في استحقاقي نائب رئيس البرلمان واللجان، فهل ستكون أمام فرصة ناجحة أم ضائعة للمرة الثالثة؟

على رغم انّ الجزم في كل شيء في الحياة أمر غير مستحبّ، ولكن تضييع المعارضة التعددية للاستحقاق الثالث يعني انّ إمكانية التلاقي الجدّي بين مكوناتها غير متوافرة وغير ممكنة حتى إشعار آخر، وهذا لا يجب ان يقود إلى وقف محاولات تقريب المسافات، إلّا انّه سيكون من الأجدى تجميد الرهانات على هذا الجانب مؤقتاً ومرحلياً، ومقاربة ميزان القوى النيابي بعين جديدة والتصرُّف على هذا الأساس.

 

وإعطاء أسباب تخفيفية تتعلّق بتعددية المعارضة لا يقدِّم ولا يؤخِّر، لأنّ المهمّ هو النتيجة المطلوبة اليوم من جهة، ولأنّ عدم الاتفاق يعني انّ هناك من يفتقد إلى الحس بالمسؤولية التي تستدعي انتزاع التكليف مهما كان الثمن من جهة أخرى، ولا يوجد أي مبرِّر لتضييع فرصة التكليف من خلال وضع كل الجهود اللازمة للاتفاق على شخصية يُصار إلى تسميتها في الاستشارات النيابية الملزمة، وهذه الشخصية تعمل على وضع معايير للتأليف مختلفة عن طريقة تشكيل الحكومات السابقة، وغير مهمّ نجاحها في تشكيل الحكومة من عدمه، إنما الأهمّ تغيير الذهنية في مقاربة الاستحقاقات الدستورية.

 

صحيح انّ الفراغ غير مستحبّ في الظروف العادية، فكيف بالحري في وضع انهياري لا يحتمل استمرار النزف القائم. إلّا انّ ما الفارق بين فراغ حكومي وبين حكومة لا يختلف وجودها عن غيابها، وهل تأليف الحكومات هو الهدف بحدّ ذاته، أم انّ الهدف دور هذه الحكومات وعملها؟ وهذه الذهنية بالذات التي يجب تغييرها، لأنّ الحكومة ليست هدفاً قائماً بذاته، إنما مجرّد أداة لحُسن إدارة البلاد، وفي حال لم تكن هذه الأداة على المستوى المطلوب، فلن تتمكّن من تحقيق الهدف الذي وجدت من أجله.

 

وأحد أوجه الأزمة اللبنانية، انّ هناك من يتعامل مع المواقع الدستورية كمواقع سلطوية فقط لا غير، حيث انّ الهدف لا يتعدّى الوجود في السلطة، ودور هذه المشاركة تأمين المصالح الخاصة لا العامة. ولكن كيف يمكن إخراج لبنان من أزمته العميقة والمعقّدة في ظلّ هذه العقلية المتحكمة بتأليف الحكومات، والتي تتعامل مع السلطة كمواقع نفوذ ومحاصصة وتسلُّط وحماية لأدوار مخالفة للدستور؟

 

وهذا النهج المدمِّر للبنان ما يجب وقفه من خلال انتزاع المعارضة لاستحقاق التكليف ورفض تأليف حكومة وفق المعايير السائدة، وتسليط الضوء على جوهر الخلل لا شكله، بمعنى انّ التركيز الدولي والشعبي لا يجب ان يكون على ضرورة إنهاء الفراغ لتأليف حكومة «كيف ما كان»، إنما التركيز على دور الحكومة الذي يستدعي تأليفاً من طبيعة مختلفة، وإلّا فإنّ الأزمة المالية ستراوح مع حكومة او من دونها.

 

وليس مبالغاً القول انّ بعض عواصم القرار في العالم تشكّل أكبر عامل مساعد لقوى الأمر الواقع في لبنان، وغير صحيح انّ العواصم الغربية على تناقض بالممارسة مع هذه القوى، بدليل انّ أولويتها دائماً إنهاء الفراغ على حساب مضمون التأليف، وهي تقدِّم أكبر خدمة لهذه القوى بتشجيعها على تأليف «حكومة كل من إيدو إلو»، فيما أثبتت السنوات الأخيرة انّ وجود حكومة من عدمها لا يفرمل المسار الانحداري الانهياري، ما يعني انّ إيقاف هذا المسار يتطلّب ليس ملء الفراغ بفراغ من طبيعة أخرى، إنما الذهاب إلى حكومات من طبيعة مختلفة.

 

ويبدو انّ تجربة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بالدفع نحو تكليف الدكتور مصطفى أديب لتأليف حكومة بمعايير دستورية ووطنية جديدة ما زالت ماثلة في الذهن الغربي، بأنّ اي حكومة بمواصفات من هذا النوع ستصطدم بجدار الثنائي الشيعي ولن تبصر النور على غرار ما حصل مع أديب، وانّ من الأجدى تأليف حكومة وفق المعايير السائدة وليس المطلوبة دستورياً، تجنّباً لفراغ مفتوح لن تنتهي مفاعيله قبل التراجع عن هذا التوجُّه.

 

ويخطئ كل من يراهن في التغيير على الخارج، وعليه ان يتذكّر دائماً بأنّ هذا الخارج شكّل غطاءً لوجود الجيش السوري في لبنان، وهذا الخارج لا يطبِّق القرارات الدولية، وهذا الخارج يبدّي الاستقرار في لبنان على حساب من يحكم هذا البلد، ولا ضير عنده إذا كان الحاكم هو «حزب الله» شرط ان يحافظ على الاستقرار. والمعادلة نفسها تصحّ على تأليف الحكومات، حيث انّ كل همّ المجتمع الدولي تجنُّب اندلاع أزمة جديدة في وجهه، وتتحوّل من لبنانية إلى إقليمية، الأمر الذي يدفعه إلى معالجات بعنوان فنّ الممكن.

 

والتغيير لم يحصل إلّا عندما نجحت الناس في فرض إيقاعها بقوتها الذاتية، ما استجلب لاحقاً الدعم الدولي المطلوب. وحان الوقت ليتعظ اللبنانيون بأنّ المجتمع الدولي هو قوة مساندة وليس قوة مواجهة، وانّ الاتكاء عليه يبدأ بعد نجاح اللبنانيين في إحداث التغيير المرجو، ولذلك، فإنّ مكونات المعارضة مطالبة بالاستماع فقط لرغبة الناس التي انتخبتها من أجل تحقيق التغيير المطلوب، والاكتفاء بتثمين الحرص الدولي على تجنيب الفراغ، ولكن التأليف هو مهمّة لبنانية وبمعايير دستورية واضحة المعالم.

 

وفي حال نجاح مكونات السلطة بانتزاع التكليف فيعني عودة قديم التأليف إلى قدمه، ويعني انّ التغيير في الانتخابات انتهى مع إقفال صناديق الاقتراع ولن يُترجم في تشكيل السلطة بكل طبقاتها، وهذا الاستحقاق هو من أهمّ الاستحقاقات لأنّ مجلس الوزراء مجتمعاً هو السلطة الفعلية في لبنان، والمدخل للولوج إلى الحكومة هو الرئيس المكلّف، ومجرد ربح ورقة التكليف يعني انتزاع مبادرة التأليف ووضع حاجز أمام تشكيل حكومة أمر واقع لا تقدِّم ولا تؤخِّر.

 

وتذكيراً بأنّ الرئيس المكلّف الذي يحظى بالتأييد النيابي المطلوب لا يمكن عزله ولا تكليف غيره في حال لم يعتذر من تلقاء نفسه، ومهمّته غير محصورة بوقت أو سقف زمني، وباستطاعته واستطاعة الفريق الداعم له رمي بسهولة مسؤولية استمرار الانهيار وعدم التأليف على فريق 8 آذار الذي يريد حكومات سلطوية لا إنقاذية، وهذه الحكومات جُرِّبت ونتائجها كارثية، وفي حال لم يتمّ الإقلاع عن هذا النوع من الحكومات فإنّ الانهيار سيتواصل حكماً، فيما الحكومة المطلوب تشكيلها لن تكون فئوية، إنما وطنية بمعايير دستورية، بمعنى انّه لا يمكنه التذرّع بتشكيل حكومة من لون سياسي واحد.

 

وما رفض الفريق الحاكم لهذا النوع من الحكومات سوى لأنّه يخشى من حكومة تحرص على تطبيق الدستور والقوانين وتحقِّق الإصلاح، الأمر الذي يتنافى ويتناقض مع دوره وعلّة وجوده، وجلّ ما يريده الحفاظ على نفوذه ودوره والاتكاء على الخارج، الذي يعتبره بقاموسه بأنّه عدو، لمساعدة لبنان بغية الخروج من الأزمة من دون ان يقدِّم أي تنازل يتعلق بدوره وممارسته.

 

ومعلوم انّ الخسارة تجرّ إلى خسارة أخرى، والفوز يجرّ إلى فوز آخر، وخسارة استحقاق التكليف تؤدي إلى خسارة الاستحقاق الرئاسي بالحدّ الأقصى، أو الدخول إلى هذا الاستحقاق بموقع الضعيف بالحدّ الأدنى، فيما استحقاق التكليف هو حجر الزاوية هذه المرة لأربعة اعتبارات أساسية:

 

الاعتبار الأول لأنّه يأتي على إثر انتخابات نيابية نجحت بالحدّ المقبول في إحداث التغيير المطلوب، ولا يجب ان تُشكّل حكومة بعد الانتخابات على غرار ما كانت تُشكّل الحكومات قبل هذه الانتخابات.

 

الاعتبار الثاني، لأنّ وقف الانهيار والخروج من الأزمة غير ممكن من خلال عدّة الشغل نفسها، إنما يجب التغيير في عدّة الشغل ودورها، وما لم يحصل ذلك فعبثاً الكلام عن تغيير.

 

الاعتبار الثالث، لأنّ تشكيل حكومة واحدة بمعايير دستورية واضحة يمكن تحويله سريعاً إلى القاعدة التي على أساسها تؤلّف الحكومات ويتمّ اختيار الرؤساء والوزراء.

 

الاعتبار الرابع، لأنّه إذا كان نزع سلاح «حزب الله» غير ممكن، فهذا لا يعني تسليمه السلطة، إنما فليحتفظ بسلاحه خارج السلطة بانتظار اللحظة الخارجية والداخلية المؤاتية لنزعه وتسليمه، كون لا تستقيم دولة في ظلّ سلاحين، إلا انّ من مهام السلطة تعطيل مفاعيل السلاح على مستوى إدارة البلد وليس الخضوع له، كما هو حاصل اليوم، وأدّى إلى ما أدّى إليه من كوارث.