منذ إقرار اتفاق الطائف الذي أنهى الحرب الأهلية في عام 1989، تحوّلت رئاسة الحكومة في لبنان إلى شريك فاعل في السلطة، وتعزز حضورها مع وصول رفيق الحريري إلى هذا الموقع أواخر عام 1992، فنجح الرجل في استثمار علاقاته العربية والدولية بشكل جيّد، وقاد بنجاح مرحلة إعمار ما دمرته الحرب على مدى 15 عاماً؛ لكن مع اغتياله في 14 فبراير (شباط) 2005، عاد الخلل إلى المؤسسات الدستوريّة، بدءاً بتهميش موقع رئاسة الحكومة ودورها في المعادلة الوطنيّة.
لا يختلف اثنان على أن رفيق الحريري شكّل ظاهرة استثنائية في تاريخ لبنان، أتعبت رؤساء الحكومات الذين تعاقبوا على الحكم من بعده، وتسببوا في إضعاف الموقع السنّي الأول في الدولة، لذلك يعتبر النائب السابق مصطفى علوش أن رفيق الحريري «كان شخصية مميزة؛ لكنه في الوقت نفسه كان صاحب مشروع عربي ودولي، فكان دوره في لبنان جزءاً من الدور العربي والدولي، بدليل علاقاته العميقة بدول الخليج، وعلى رأسها المملكة العربية السعودية، ومع دول القرار العالمي، بالإضافة إلى مصر وتركيا وباكستان والمغرب وغيرها».
وإذ ذكّر علّوش بشعار رفيق الحريري: «ما حدا أكبر من بلده»، شدد في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، على أن رفيق الحريري «كان أكبر من لبنان، فهو لم يكن هاوي سلطة؛ بل كان صاحب مشروع التعددية والديمقراطية والثقافة، المشروع الذي يحمي لبنان من عقائد المجموعات اليسارية التي لا تؤمن بفكرة الدولة، ويحميه أيضاً من التطرف السنّي كما التطرف الشيعي المتمثّل بولاية الفقيه، وقد قاتل من أجل هذا المشروع وقُتل من أجله».
لا يخفى على أحد أنه مع غياب رفيق الحريري عن المشهد، أخذ لبنان بالتراجع السريع، إلى أن غرق في السنوات الأخيرة بالأزمات ووصل إلى الانهيار الشامل، وبرأي مصطفى علوش: «من أتى بعد الحريري إلى السلطة، بمن فيهم ورثته، لم تكن لديهم الخبرة ولا الكاريزما، ولم يعد لبنان بالنسبة إليهم مركز الثقل الذي ناضل لأجله رفيق الحريري»، معتبراً أن «القيادات السنيّة التي تعاقبت على الحكم بعد زلزال 14 شباط 2005 (اغتيال رفيق الحريري)، دخلت بالمساومة على السلطة ومغانمها حتى وصلنا إلى الكارثة».
صحيح أن الكلّ متفق على فرادة تجربة رفيق الحريري في الحكم، وشغفه الدائم إلى تطور لبنان وازدهاره الدائم؛ لكنه يعزو النكبات التي أصابت البلد وأضعفت الرئاسة الثالثة لأسباب متعددة. ويرى النائب السابق فارس سعيد، أن «تهميش رئاسة الحكومة في لبنان خاضع لظروف إقليمية لها علاقة بوضع إيران يدها على لبنان وسوريا والعراق واليمن، والذي أدى إلى تهميش الوضعية السنيّة في كلّ المنطقة واستقطاب الأقليات، وحيث نجحت في استمالة جزء كبير من المسيحيين والدروز». ويؤكد سعيد لـ«الشرق الأوسط» أن «اغتيال رفيق الحريري رفع حاجزاً سنياً كبيراً من أمام الاندفاعة الإيرانية، كما أن إعدام صدام حسين في عام 2003، وإزاحة أبو عمّار (الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات) في عام 2004، سمح بإزالة حواجز كبيرة من أمامها»، مذكّراً بـ«تجربة ناجحة في رئاسة الحكومة بعد رفيق الحريري، تمثّلت بوجود فؤاد السنيورة بهذا المنصب بين عامي 2005 و2009؛ حيث شكّل علامة فارقة عبر صموده بمواجهة (حزب الله) وفريقه، وكان يتكئ حينذاك على مساحة واسعة اسمها (قوى 14 آذار)، بحيث كان يتخذ القرارات الحاسمة والمصيرية داخل مجلس الوزراء». ويقول: «بعد السابع من مايو (أيار) 2008 (اجتياح بيروت عسكرياً من قبل «حزب الله»)، وبعد اتفاق الدوحة والقبول بمنح (حزب الله) الثلث المعطل في الحكومة، تدرجنا إلى تهميش كلّ المؤسسات».
لقد شكّل موقع رئاسة الحكومة بوجود رفيق الحريري نقطة استقطاب كبيرة، فالرجل الآتي من عالم الأعمال أثبت حضوره المميز في السياسة، وتجيير علاقاته لصالح لبنان، غير أن تغييبه من المعادلة السياسية بالاغتيال قلب الأمور رأساً على عقب.
ويعتبر السياسي اللبناني خلدون الشريف، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن «الواقع السياسي الذي استجد بعد اغتيال رفيق الحريري، أطاح بهيبة كل المواقع الرئاسية والسياسية؛ لأن القوى المتنازعة في السياسة المتوزعة للمصالح تجاوزت الغاية الأساسية للحكم، وهي رخاء الناس، وعملت على عكس ذلك تماماً، بما أطاح بالناس ومصالحهم ومستقبلهم، مقابل تعزير شبكة مصالح السياسيين أنفسهم». وقال: «لا شكّ في أن الوضع بعد رفيق الحريري لم يعد كما كان معه، من حيث وجود الأمل والأحلام لدى الشباب اللبناني»، لافتاً إلى أن «نموذج الحكم الذي عايشناه بعد رفيق الحريري أفقد كل الرئاسات هيبتها ودورها، بدليل أن انتفاضة عام 2015 (طلعت ريحتكم) ومن ثمّ انتفاضة 17 أكتوبر (تشرين الأول) 2019 عرّت الزعامات السياسية، دون أن تستطيع الإطاحة بهم».
ويتفق النائب السابق فارس سعيد مع هذه القراءة، ويشير إلى أن «التهميش الذي يطول رئاسة الحكومة حالياً ينسحب على رئيس الجمهورية وحتى على المجلس النيابي، وهذه المؤسسات جميعها أضحت أشبه بكاتب العدل، يصادق على ما يقرره (حزب الله) خارجها». ويرجّح سعيد أن «الواقع القائم سيستمرّ بانتظار تحولات إقليمية تفضي إلى تحجيم الدور الإيراني، وإلى مواقف حاسمة للقوى السيادية التي عليها أن تتحدث بفكرة وجود لبنان وعروبته وبنهائية الدولة».
وتتعدد الأسباب التي حوّلت لبنان من دولة رائدة ومتقدمة مع رفيق الحريري، إلى دولة فاشلة بعد اغتياله. ويعزو خلدون الشريف الأمر إلى أن «الاصطفاف في لبنان لم يعد لصالح الناس؛ بل لصالح القوى المتنازعة، سواء كانت فاسدة أم حامية للفساد». وأضاف: «لم يعد السلاح غير الشرعي هو العنوان الأوحد للمعارك السياسية؛ بل يكفي مثلاً أن ينظر اللبنانيون كيف استطاعت سريلانكا الاتفاق مع صندوق النقد وإجراء الإصلاحات المطلوبة في غضون عشرة أيام، أما نحن فلم نستطع إقرار لا قانون السرية المصرفية ولا (الكابيتال كونترول)، ولا حتى الموازنة خلال 3 سنوات، فكيف نطلب من الناس أن تثق بحكامها؟ ووفق أي أسس؟». وختم الشريف: «اللبنانيون يشعرون اليوم بأن دور كلّ الرئاسات انتهى، والشعب لم يعد معنياً بخلافات تلك المواقع فيما بينها، بعدما أيقن أن السلطة واقعة بيد قوى سياسية وحزبية متناحرة لأسبابها الخاصة».