توّجت الاستشارات النيابيّة المُلزمة القاضي الدكتور نواف سلام رئيساً مكلفاً بتشكيل الحكومة العتيدة بعد مخاض عسير. إلّا أنّ الوضع اللبناني يمكن توصيفه بكلمات للمتنبّي حين قال «مَصائِبُ شَتّى جُمّعَتْ في مُصيبَةٍ، ولم يَكفِها حتى قَفَتْها مَصائِبُ». وعلى مدى أيام خاض الرئيس المُكلّف جلسات الاستشارات النيابية غير الملزمة للخروج بتشكيلة وزاريّة تقبلها القوى السياسية، ليتم بعدها الانكباب على كتابة بيان وزاري تتدخّل فيه أجناس الملائكة جمعاء، حتى إذا ما خُطّت سطوره سارع الرئيس الى تلاوته في المجلس النيابي لطلب الثقة في جلسة أشبه بسوق عكاظ. ولا شكّ ان درب الرئيس المكلّف سيكون أشبه بمعمودية النار وخصوصاً في ظلّ الديمقراطية التوافقية التي طالما هشّمت مبدأ الحكم الرشيد حيث تُحكم الأوطان من سلطة تحكم وتسيّس شؤون البلاد ومعارضة تراقب وتتابع وتعارض الحُكم.
تشير المعلومات الأولية الى توجّه مبدئي لتشكيل حكومة من ٢٤ وزيراً يطغى عليها طابع التكنوقراط من دون الحزبيّين، لكن بشخصيات قريبة من الأحزاب الحاكمة، وبالتالي فإنّ بازار المُحاصصة الوزاريّة وخيارات الوزارات السياديّة يُنذران بأن الحكومة القادمة ستكون رهينة المحاصصات الطائفية والمذهبية والمناطقية المقيتة، والكانتونات الحزبية، ما يشكّل تعدّياً فاضحاً على الدستور الذي استشهد به الرئيس المكلّف من عين التينة قائلاً بعد زيارته رئيس مجلس النواب، الذي قاطع والثنائي الشيعي جلسات الاستشارات النيابية غير الملزمة معه، «ما يجمع بيننا هو الدستور والميثاق الوطني».
اللافت في الموضوع هو إعادة تشكيل كتل نيابيّة وهميّة غبّ الطلب من أجل تمثيلها بوزراء في الحكومة قياساً على هرطقة أنّ لكل خمسة نواب حقيبة وزاريّة، بالإضافة الى الكتل النيابيّة المعروفة التي تطالب بتمثيلها الوزاري بحقائب معيّنة، ما يعيق تطبيق خطاب القسم الرئاسي وكلمة الرئيس المكلّف اللذان ارتكزا على مبادئ المحاسبة واجراء الإصلاحات اللازمة لإعادة نهوض لبنان من أزماته المتراكمة، وأشارا الى فصل السلطات وتعيين الشخص المناسب في الموقع المناسب. ويجب الإشارة الى أنّ التراجع عن مضمون خطاب القسم الرئاسي وكلمة الرئيس المكلف ستصيب العهد مقتلاً في انطلاقته.
والمفارقة الكبرى أنّ نواب الثنائي الشيعي الذين امتنعوا عن تسمية الرئيس المكلّف ولم يشاركوا في الاستشارات النيابية غير الملزمة معه، لا مانع عندهم من المشاركة في الحكومة إذا ما تمّت تلبية شروطهم، بحجّة «الوفاق الوطني»، والتهديد بالميثاقية من خلال المطالبة «بحكومة ميثاقية» وهو مصطلح استخدم لأوّل مرّة في الميثاق الوطني اللبناني لعام ١٩٤٣، ويعني أن تتضمن التشكيلة وزراء من كافة الطوائف في الخارطة السياسية اللبنانية دون استثناء أحد. لكن الثنائي الشيعي أراد من خلال التلويح بالميثاقية اختزال الطائفة الشيعية في لبنان وحصر تمثيل الشيعة به.
ومن المرتقب بحسب المعلومات الأولية أن تضم الحكومة شخصيات ذات اختصاص تدور في فلك الثنائي الشيعي، مع إمكانيّة إسناد حقيبة المالية لوزير من الطائفة الشيعيّة، الأمر الذي يثبّت الشكوك بأن وزارة الماليّة هي رمزٌ لكبرياء الثنائي وترتبط بدورهم وحقوقهم المزمعة في صنع القرار اللبناني حتى باتوا يرون كراماتهم مربوطة بها، لدرجة تسميتها بـ «الحقيبة الميثاقية». إلّا أنّ الدستور اللبناني لم يلحظ أي نصّ يكرّس حصرية وزارة محددة بطائفة محددة، ولم تذكر «وثيقة الوفاق الوطني» المنبثقة عن مؤتمر الطائف في محاضر الاجتماع عن اتّفاق يقضي بتكريس وزارة الماليّة للطائفة الشيعية. لكن من الواضح أنّ الثنائي الشيعي يشعر انه من حق طائفته أن يكون لها موقع ثابت في السلطة التنفيذية، عدا أنّ اتفاق الطائف خصّ الطائفة الشيعية برئاسة السلطة التشريعية التي تتمتع بصلاحيات مُعزّزة، ليتمكّن الثنائي من فرض سيطرة واسعة على النشاط التشريعي والقرار التنفيذي والحياة السياسية في لبنان. وواقع الأمر أنه لا بدّ للمراسيم الدّسمة أن تذيّل بتوقيع الوزير الشيعي، هذا ما يُريد الثنائي الشيعي إحيائه وتثبيته إلى حين تكوين نظام سياسيّ جديد.
في الخلاصة، يكمن الخطر في حصر الديمقراطية بمفهوم التوافقية، تلك الصيغة التي تكرّس المحاصصة وتوفر لها الإطار القانوني، وبالتالي تحول دون تأمين رؤيا موحّدة تلبّي طموحات كافّة اللبنانيين. وفي هذه الظروف المشبّعة بالهرطقة السياسية والابتزاز السياسي، يكون الرئيس المكلّف نواف سلام أمام معمودية بالنار، فإمّا تنير الدرب أمامه وأمام اللبنانيّين أو تحرقه بألسنة نيرانها ومعه فرصة إنقاذ لبنان.