مقدار أهمية ما حضر في زيارة ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان إلى مصر، هو مقدار ما غاب عن خطاب الزيارة.
ما غاب كان ينبغي أن يغيب منذ زمن بعيد. لن يعثر المدقق في «نصوص» الزيارة على الكلام العام «القديم» عن المصالح العربية، والأخوة، والعلاقات الوطيدة، وغيرها من مفردات الإنشاء السياسي العربي.
الزيارة التاريخية، بهذا المعنى، التي هي جزء من أولى جولات ولي العهد الخارجية منذ توليه منصبه، والتي أراد لها أن تبدأ من مصر، هي زيارة في مضمونها ونتائجها خارج الزمن الآيديولوجي؛ أو لأكون أكثر حيطة: زيارة خارج اللغو الآيديولوجي العروبي القديم.
المصالح المشتركة الحقيقية، في الاقتصاد والرفاه والعيش، هي التي تصنع علاقات مميزة، وليس خطابات المستشارين، الأرقام وليس العبارات الأنيقة، البنى التحتية الملموسة، تراباً وحجارة ومياهاً وعمراناً، وليس البنى الصوتية.
لن تعثر في نصوص الزيارة على إعلانات عن وحدة مرتجلة، كالوحدة بين مصر عبد الناصر وسوريا، أو بين سوريا وليبيا، أو بين مصر وليبيا، أو غيرها من وحدات الزمن الآيديولوجي الآفل.
ستعثر على عبارة بسيطة، مفادها أن التنقل بين الأجزاء المصرية والسعودية لمشروع «نيوم» سيتاح من دون الحاجة إلى تأشيرات!
تطويع الجغرافيا بالمصالح الحقيقية، لا باللغو والنوستالجيا. من أمارات ذلك توسعة التعاون الاقتصادي السعودي المصري، وإنشاء صندوق استثماري بقيمة 10 مليارات دولار لبناء الجزء المصري من مشروع «نيوم» جنوب سيناء، وهو عبارة عن مدينة كبرى، ومركز اقتصادي استثماري سياحي على البحر الأحمر، على مساحة ألف كيلومتر مربع.
وسيناء هي نقطة التقاطع الاستراتيجي بين مصر والسعودية، بصفتها واحدة من ساحات مواجهة الإرهاب، حيث تدور حرب حقيقية بكل معنى الكلمة في مواجهة «داعش».
بدأت بما غاب عن الزيارة، من دون أن أنوي إهمال ما حضر فيها من رمزيات بالطبع، لا سيما زيارتي مشيخة الأزهر والكنيسة القبطية الأرثوذكسية، التي يعد الأمير محمد بن سلمان أول مسؤول سعودي رفيع يزورها في تاريخ العلاقة بين البلدين. فتلك الزيارة تتجاوز إطار المجاملة، أو العلاقات العامة، إلى ما هو أعمق بكثير.
إذا كان الاقتصاد، كما أسلفت، هو عبور بالعلاقات السعودية المصرية إلى مرحلة ما بعد الآيديولوجيا، فزيارة الكنيسة هي تأسيس لآيديولوجيا جديدة تقود شخصية الدولة السعودية على قاعدة «الإسلام المعتدل».
في حفل افتتاح مشروع «نيوم»، في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، خلال فعاليات «مبادرة مستقبل الاستثمار»، قال الأمير محمد: «إننا فقط نعود إلى ما كنا عليه، إلى الإسلام الوسطي المعتدل المنفتح على العالم، وعلى جميع الأديان، وجميع التقاليد والشعوب».
زيارة الكنيسة القبطية الأرثوذكسية هي تجسيد لهذا التحول الكبير في رؤية الدولة السعودية لسؤال الدين، وهو التحول الذي برأيي لم يأخذ حقه في نقاش التحولات التي يقودها ولي العهد السعودي.
حدث ولا حرج بعد ذلك عن زيارة مشيخة الأزهر، وموقعه في تأصيل الإسلام المعتدل، ورعاية إنتاج نخبه ومثقفيه. وقد سبق لي أن كتبت في هذه الزاوية أكثر من مرة عن محور «مكة – الأزهر»، أي الإسلام كمهد ومؤسسة، بوصفهما رافعة لمشروع ديني ثقافي سياسي إعلامي، لتجفيف منابع الإرهاب الفكرية، وتنقية الإسلام من القراءات والنصوص المؤسسة لفقه الإرهاب والجريمة، كما لمعالجة أسباب الشقاق المذهبي الذي تستثمر فيه إيران لتعميق اختراقها السياسي والأمني والمجتمعي في الدول العربية.
المشهدية الثالثة اللافتة، بعد مشيخة الأزهر والكنيسة القبطية، هي زيارة دار الأوبرا المصرية لحضور مسرحية «سلم نفسك»، ذائعة الصيت في مصر هذا الأيام، التي تجاوزت مائة يوم عرض في فبراير (شباط) الفائت، وجذبت إليها جمهوراً شديد التنوع. فحضور الأمير محمد، برفقة الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، للمسرحية هو كمن يقود بشخصه الرؤية التي يريدها لبلده. قبل أسابيع، أعلنت الهيئة العامة للترفيه في المملكة عن البدء بإنشاء دار للأوبرا، ضمن مشاريع ترفيهية تبلغ قيمتها الاستثمارية 64 مليار دولار خلال السنوات العشر المقبلة. ويحتل الترفيه جزءاً كبيراً من «رؤية 2030»، كأحد أعمدة بناء الشخصية السعودية الجديدة، وتجاوز مفاعيل السنة الآسرة، التي لا ينفك يعود إليها الأمير محمد، وهي سنة 1979، سنة قيام الثورة الإيرانية.
قرأت أن الراحل الملك فهد بن عبد العزيز، وكان لا يزال ولياً لعهد أخيه الملك خالد، رحمهما الله، حلم بأن يبني داراً للأوبرا في جدة «تتسع لعشرة فيلة»، وليس لفيل واحد يظهر في عرض «أوبرا عايدة»!
وسيحصل ما يحصل في إيران، وستشتعل حمية شاب سعودي اسمه جهيمان العتيبي، وستحصل حادثة الحرم، وسيسقط سيف الخوف على كل الأحلام الكبيرة، ويقطع عنق الأوبرا وغيرها من المشاريع!
الأمير محمد بن سلمان كرر أكثر من مرة أن جيله لن يبقى أسير هذا العام المشؤوم، وأن فسحة العيش أكبر من البقاء في زاوية رد الفعل على الثورة الخمينية، وما أفرزته من سرطانات مذهبية وانقلابية.
في مصر، وعلى أرضها، قدم الأمير محمد بشخصه التزاماً عملياً بثوابت رؤيته، وبما يريده لشعبه وأهله، وما يريده للمملكة في علاقاتها بالآخرين!