اليوم، والكلام عن القضاء على «أسطورة» المبنى «ب» أو «إمارة» الموقوفين الإسلاميين في سجن رومية، يعيد سياسيون ورجال أمن المشكلة إلى جذورها الأساسية: «وصول محاولات افتعال الفتنة السنية ـ الشيعية إلى ذروتها». وعليه، عندما هدأت الأجواء، وإن نسبياً، مع بداية حوار «حزب الله» و «المستقبل»، سارت القوى السياسية المعنية بالملف إلى الخواتيم التي شهدها «على أمل أن تكون فعلاً خواتيم»، كما تعلق شخصية أمنية سياسية على ما حصل.
يجمع هؤلاء على أن استشهاد الرئيس رفيق الحريري في العام 2005 أسس، تزامناً مع الظروف في المنطقة العربية، لمشروع الفتنة السنية ـ الشيعية في لبنان. جاءت حرب مخيم نهر البارد التي شنت على الجيش اللبناني لتزيد الأمور تعقيداً. وبرغم أن معظم شهداء الجيش كانوا من منطقة عكار، فإن العاملين على الفتنة حاولوا خلق شرخ بين الناس والجيش عبر الترويج بأن «الجيش يستهدف السنة في لبنان».
بموازاة ما يحصل، لم يكن الوضع في سجن رومية أفضل حالاً. المذهبية نفسها تسللت إلى السجن الأكبر في لبنان. صارت إدارة السجن، مع حصول بعض الحوادث، تتجنب اختلاط الموقوفين الإسلاميين مع سجناء من طوائف أخرى، وخصوصاً من الشيعة. يضحك أحد السياسيين المتابعين للملف: «كما في الانقسامات السياسية خارجاً، كان السجناء المسيحيون في رومية موزعين ما بين بلوكات السنة والشيعة».
لكن أسوأ ما أنتجه الانقسام السني – الشيعي تمثّل بـ «تقسيم» القوى الأمنية والعسكرية في البازار السياسي والسجال في البلاد، وفق الشخصية السياسية نفسها التي تشير إلى أنه «نتج من هذا التصنيف تفعيل فرع المعلومات في قوى الأمن الداخلي ومنحه دوراً صار معه عصب هذه المؤسسة».
وبرغم أن سرية السجون في قوى الأمن الداخلي هي التي تشرف على سجن رومية وفق القانون، إلا أن فصيلة من فرع المعلومات تمركزت في السجن بهدف «مراقبة الموقوفين الإسلاميين». وهكذا «وضع فرع المعلومات كل ثقله في رومية».
تقول الشخصية نفسها إنه لا يخفى على أحد متاجرة بعض السياسيين ومعهم رجال دين، «وهذا موثق في الإعلام» بملف الموقوفين الإسلاميين. تطور هذا الأمر تطوراً لافتاً مع بداية الأحداث في سوريا. وتزامن اللجوء إلى استغلال ملف الإسلاميين في رومية مع عدم إجراء المحاكمات لنحو ثلاثمئة موقوف منهم بذريعة عدم وجود قاعة محكمة تتسع لهم جميعاً، وسوء ظروف المعيشة والصحة في السجن المكتظ نفسه، وكذلك الحقن الطائفي والمذهبي وتعمق الانقسام الحاد في لبنان.
الفتنة المذهبية مهّدت لنشوء بيئة حاضنة للإسلاميين في رومية، ليس أقلها الاعتصامات وقطع الطرق والاحتجاجات خارج السجن، وصولاً إلى انتفاضتهم في العام 2010 داخل السجن نفسه. يومها ذهب قتلى وجرحى وتخلعت الأبواب بين الزنازين، وصار الإسلاميون كأنهم في زنزانة واحدة، كما سيطروا على الطابقين الأول والثالث من «المبنى ب»، وتحكموا بالمساجين فيهما.
لا ترغب الشخصية السياسية في القول إن فرع المعلومات «تواطأ» مع الموقوفين الإسلاميين وسمح بإدخال التجهيزات التي ضبطت داخل «المبنى ب»، كما منحهم الامتيازات التي مكنتهم من إقامة «إمارتهم». يفضل المصدر نفسه استخدام تعبير «غض النظر» عما يحصل، وليس «التواطؤ». لا ينسى أن يقول إن «المعلومات» صار يتصرف وكأنه مطالب في السياسة «بحفظ مصالح الطائفة السنية، إن لم نقل انه سبب أساسي من أسباب تعزيز دوره». ومع اللعب على وتر «استهداف السنة»، تحول الموقوفون الإسلاميون في رومية إلى جزء من اللعبة نفسها. ولا ننسى الفساد الذي ضرب بعض عناصر قوى الأمن الذين كانوا يدخلون أجهزة ومتطلبات للموقوفين مقابل المال، وهناك عناصر تحاكم في القضاء لغاية الآن، بينهم ضباط.
يضع المصدر نفسه تقارير فرع المعلومات عن الخلايا الإرهابية في سجن رومية في إطار «الذكاء المخابراتي»، غامزاً من زاوية عدم جدوى التقارير المكتوبة أمام عدم اتخاذ أي إجراءات من شأنها وضع حد لما يحدث.
ومع الخراب الذي أصاب سجن رومية وعدم وجود أبواب بين الزنازين، وقصة هدر ملايين الدولارات في عملية الترميم، والتي أثبتت عبر رفض وزير الداخلية السابق مروان شربل تسلم «المبنى د»، ظل الإسلاميون مجمّعين في «المبنى ب» برغم إنهاء أعمال الترميم منذ ثلاثة أشهر، ووجود خطة لنقلهم إلى «المبنى د»، إلى أن كان الحوار الذي مهد الأجواء والبيئة الحاضنة لدقّ ساعة صفر التنفيذ.
تسأل شخصية سياسية إن كان بمقدور أي وزير داخلية غير سني، وغير محسوب على القوى السياسية التي ينتمي إليها الوزير نهاد المشنوق أن يفعل ما فعله؟ مع العلم أن اعتراضات صدرت من وزراء ونواب محسوبين على التيار نفسه، وهو ما يشير إلى بصمات المشنوق نفسه في التعاطي مع الملف وتوظيفه الظروف المحيطة للإفادة منها.
«هذا هو لبنان»، يقول المصدر نفسه، ليستشهد بالتفجيرات المأساوية التي أصابت جبل محسن «لولا بدء الحوار لاشتعلت طرابلس مجدداً». فمن «أنهى 23 جولة من المواجهات في طرابلس بقرار سياسي، ينهي أسطورة رومية بالجو السياسي نفسه».
ومع ذلك تضع الشخصية السياسية بعض النقاط الأساسية لاستكمال نجاح ما حصل في رومية: التسريع في محاكمة الإسلاميين وإطلاق سراح من يجب إطلاق سراحه، وتحسين ظروف العيش والصحة والخدمات في السجن، تخفيف الاكتظاظ الذي وصل إلى أعلى مستوياته، استمرار تعطيل عملية التواصل والاتصالات، والأهم أن يثمر الحوار السني – الشيعي لقطع دابر الفتنة بين طائفتين أساسيتين في لبنان، ليس من أجل قطع الطريق على إعادة إنتاج «إمارة رومية»، بل من أجل الأمن والاستقرار في البلاد وبين العباد.