في حديٍث لرسول الله صلوات الله وسلاُمُه عليه أنه يحمُل هذا العلَم من كّلَ خَلٍف عدولُه٬ ينفون عنه تأويل الغالين وتحريف المبطلين. وبعد عقدين من السنين٬ صار واضًحا من هم الغالون٬ ومن هم المبطلون المحِّرفون. فكلا هذين الداَءين ظهر في قلب الإسلام أو تغّطى به. وكنا جميًعا نتابع الظواهر ونحاول مكافحتها.
وما انكشف الأمر تماًما إلاّ عندما ظهرت «القاعدة» ومتفرعاتها على مدى عقٍد ونصف٬ تعمل في المجتمعات والدول والعالم اختراًقا وتخريًبا٬ استناًدا لتأويلاٍت في الدين٬ آِخُرها وأفظُعها التكفير والقتل وخلافة البغدادي وانكشف التحريف الإيراني للدين باسم المقاومة تارة٬ وباسمَصون مزارات آل البيت طوًرا٬ وللمصالح الاستراتيجية الإيرانية أولاً وآِخًرا.
السوسيولوجيون الغربيون مختلفون مع اللاهوتيين وعلماء الدين منذ القرن التاسع عشر على منهج ومناحي النظر في الدين. فعلماء الدين مهتمون بأصول الدين ومنظوماته العبادية والأخلاقية. أما السوسيولوجيون فيقولون إنهم معنيون بالتأثيرات غير الدينية للدين٬ والنتائج الدنيوية والاجتماعية الظاهرة. والجدال يدور بين الطرفين أو الأطراف٬ حول إمكانات فهم الظواهر والتأثيرات دونما عناية بالأصول العقدية أو التيولوجية للدين. إّن الذي يتصل بموضوعنا اليوم الأمران مع التركيز على التأثيرات غير الدينية للدين. وتبقى العناية بالأصول ضرورية لقراءة كيفية إجراء التحويلات في المفاهيم الدينية من أجل استغلالها لأهداف سلطوية واستراتيجية («القاعدة» و«داعش» وحزب الله وعصائب أهل الحق والفاطميون والزينبيون… الخ).
إّن كل فريٍق من هذين الفريقين أو الفرقاء يسلك المسلك الذي يعتقد أنهُملائٌم لتحقيق ما يريد الوصول إليه. إنما لماذا اعتبرُت صنيع «القاعدة» و«داعش» وأمثالهما غلًوا وتطرًفا٬ بينما اعتبرُت أفعال الميليشيات الإيرانية تحريًفا؟ قلُت بذلك أو فّرقُت٬ لأّن الأوائل يتحدثون عن الفسطاطين لمكافحة الاستكبار العالمي٬ كما يتحدثون عن تصحيح الإيمان من طريق التوصل لاستحلال الدم والقتل تكفيًرا أو لأّن الغاية (الدولة الإسلامية أو تطبيق الشريعة) تبرر الوسيلة؛ فما لا يتم الواجب إلاّ به فهو واجب! أما الإيرانيون والمتأيرنون المحِّرفون فإنهم يجتذبون العامة الشيعية بمقولات الدفاع والمظلومية٬ بحجة أنهم يريدون إنقاذ التشيع أو نْشره بهذه الطريقة!
وغني عن البيان أّن الإسلام (السني) ليس مهَّدًدا أو ما كان مهَّدًدا٬ لأّن أتباعه يشّكلونُ خمس سّكان العالم. والإسلام الشيعي ليس مهَّدًدا٬ فإيران دولة قوية وحامية٬ وكُّل الأقطار التي يستهدفها الإرهاب الإيراني الآن (مثل سوريا والعراق ولبنان والبحرين والكويت) ليست فيها معاناة شيعية٬ أو أّن الشيعة غير موجودين فيها (= سوريا). إنهم حّكاٌم في العراق ولبنان٬ وأوضاعهم ممتازة بالكويت. ووضعهم مقبوٌل إلى جيد في البحرين. ولولا أفعال إيران والمتأيرنين لازدادت المشاركة الشيعية في السلطة والإدارة في الدول العربية والإسلامية كلها. ولولا تهديد «القاعدة» و«داعش» للناس والعالم٬ لكان المسلمون في ديارهم وفي العالم أفضل حالاً٬ ولما قامت الحرب العالمية على الإرهاب٬ والتي تضر أكثر ما تضر بالعرب والمسلمين٬ سمعة وحياة وعملاً وتنقلاً.
نحن نواجه إذن هذين الخطرين: خطر التطرف والغلو٬ وخطر التأثيرات الاستراتيجية من طريق تحريف الدين. وكلا الخطرين ما عاد يمكن مواجهته بالدعوة وتصحيح المفاهيم فقط؛ بل لاُبَّد من المواجهة الأمنية والعسكرية بعد أن صارت لهاتين الآفتين آثار كارثية على الأرض في البلدان العربية والإسلامية٬ ومع العالم.
كيف أمكن «تطويع» الدين واستغلاله لأهداف سلطوية واستراتيجية٬ بالتأويل والتحريف؟ في المجال الشيعي ذلك مفهوٌم٬ لأّن المرجعية الدينية الإيرانية قوية جًدا في العالم الشيعي. وقد قامت دولة دينية في إيران اصطنعت هذه التحويلات٬ وصار من استراتيجيتها نشر المذهب وُنصرته في الدول الأُخرى٬ بعد أن انتصر في إيران. أّما عند السنة؛ فإّن من أسباب القدرة على التأويل المتطرف٬ ضعف المرجعيات الدينية٬ وفشل تجربة الدولة الوطنية في كثيٍر من الأقطار العربية.
ولذا فإّن العلاج للظاهرتين واضح من الجهة الفكرية٬ وهي العمل على تقوية المؤسسات الدينية المعتدلة والمنفتحة٬ لكي تتمكن بالكفاءة والفعالية من «حفظ الدين على ثوابته المستقرة وأعرافه الجامعة»؛ كما يقول الماوردي. وهذه مهمة ما عاد يمكن التساُهُل بشأنها٬ لأّن هؤلاء الُغلاة يخّربون الدين والمجتمعات والعلائق مع العالم. ومهمة استعادة السكينة في الدين صعبة جًدا٬ لكْن على العلماء قبل السلطات القيام بها أوُيصاب ديننا بأضراٍر هائلة قد يتعذر تلافيها في المدى المنظور. إذ لو استقرت مسألة الكفاح (أو الجهاد!) من أجل تطبيق الشريعة٬ لكان معنى ذلك التسليم بأّن الدين غير مطَّبٍق الآن٬ وبالتالي نحن غير مسلمين٬ ونحتاج لـ«داعش»
و«القاعدة» وأمثالهما لإعادة أسلمة المسلمين!
وإذا كان الغلو أكثر تهديًدا للدين وللعلاقة بالعالم؛ فإّن التحريف الإيراني أكثر إضراًرا بالدول والمجتمعات. سمعُت قبل يومين الأمين العام لحزب الله يتمدح بمحمد حسنين هيكل٬ الذي ظَّل على تواُصل معه حتى وفاته الماجدة! وهكذا فإنه في الوقت الذي يعمل فيه الإيرانيون والمتأيرنون على نشر الميليشيات المسلَّحة في دولنا٬ والتشيع الجديد في مجتمعاتنا؛ ما يزالون يحظون باستحسانُنَخٍب منا باسم القومية واليسار ومعاداة الغرب والولايات المتحدة (!). وقد كان هيكل وعشراٌت بل مئاٌت من هؤلاء المتجمدين في الستينات والسبعينات من القرن الماضي٬ يتشَّفون بشعوبهم المقتولة والمهَّجرة بين الدواعش والمتأيرنين٬ بحجة أنه لا بديَل عن المقاومة والممانعة الإيرانية٬ ولا بديل عن حكومات الطغيان تارة باسم العلمانية والعقلانية٬ وطوًرا للنضال ضد الولايات المتحدة٬ التي كَّف الإيرانيون عن رفع الشعارات ضدها٬ وتسلمها عنهم المسلَّحون الشيعة العرب وشيوخ حركات التحرر العظيمة٬ التي تكره الأرثوذكسية السنية٬ وتحب وتقدس الأرثوذكسية الشيعية!
الأُصوليات والإحيائيات هّن بناُت الحداثة. وعندما بدأت بالظهور والحصول على جمهور٬ سارعت الدول الكبرى في الحرب الباردة إلى التواصل معها واستخدامها بأشكاٍل مختلفة. ولا ينبغي أن ننسى أّن الأميركيين تخلَّوا عن الشاه٬ وتخلَّوا من بعد عن ُحسني مبارك. وفي الحالتين كان هذا التخلّي لصالح الراديكاليات والإحيائيات و«الجهاديات». فنحن متروكون اليوم بين هاتين الحركتين الراديكاليتين القاتلتين غلًوا وتحريًفا. وإنقاذ النفس يكون بإنقاذ الدين والدولة من تأويلات الغالين٬ وتحريفات المبطلين.
في المدة الأخيرة أظهرت الدول العربية (من خلال التحالف العربي) والدول الإسلامية الكبرى (من خلال التحالف الإسلامي) وعًيا بضرورة التصدي لهذين الخطرين. ويظل الأمران أولاً وآِخًرا مهمة عربية؛ كأننا في زمن الإسلام الأول٬ فيا للعرب!