مخدرات وضرب وسرقة وتحرّش ودعارة… وإضرار بأملاك الدولة
سجون لبنان مكتظّة. وهو واقع يزداد تفاقماً منذ سنوات. نزلاء السجون لبنانيّون وغير لبنانيّين، بالطبع. لكن أن تبلغ نسبة السوريّين منهم 30% في حين لم تتخطَّ نسبة الأجانب الآخرين الـ10%، بحسب آخر الأرقام، فالأمر يستدعي دقّ ناقوس الخطر والسؤال عن الأسباب. ففي مقارنة بسيطة، لم تتعدَّ النسبة تلك (السوريّون ضمناً) الـ18% في 2010. أما عدد الأحداث السورييّن الموقوفين حالياً – والذي يبلغ، بحسب أرقام مديرية السجون في وزارة العدل، 68 من أصل 101، أي ما نسبته 67% من مجمل الأحداث الموقوفين – فكفيل بأن يحوّل الخطر إلى كارثة في مقبل الأشهر والسنوات.
تتنوّع الجرائم المرتكَبة من مواطنين سوريّين على الأراضي اللبنانية لتشمل السرقة بالدرجة الأولى؛ يليها تعاطي وحيازة المخدرات؛ الدخول خلسة إلى لبنان؛ الاعتداء بالضرب؛ السرقة؛ التحرّش الجنسي؛ الدعارة؛ كما الإضرار بأملاك الدولة والأفراد. مصدر قضائي داخل وزارة العدل أفاد «نداء الوطن» بأن ما مِن قوانين محدّدة ترعى محاكمة السوري (أو الأجنبي) الذي يقترف جرماً على الأراضي اللبنانية، إذ إن أصول المحاكمات لا تميّز بين مرتكب وآخر. وفي حين أن العقوبة تُنفَّذ في لبنان، «ورغم أن القانون ينصّ على ترحيل الأجنبي إلى بلده الأم بعد انتهاء فترة عقوبته، غير أن هذا النص غير مطبَّق حالياً بحقّ السوريّين، بل يتمّ منحهم مُهلاً متكرّرة لتسوية أوراق الإقامة الخاصة بهم». وبالنسبة للسجون اللبنانية، فقد أشار المصدر نفسه إلى أن أعداد الموقوفين السوريّين المتزايدة فاقمت من تَدهوُر حالتها، بحيث تخطّت نسبة الاكتظاظ فيها الـ250% ما انعكس سلباً على سائر نواحي الحياة السجنية وكافة حقوق السجين وضماناته. يأتي ذلك في ظلّ غياب كلّي للخطط الاستراتيجية لمواجهة أو معالجة هذا الواقع المرير. فما الأسباب التي تقف وراء ارتفاع نسب جرائم السوريّين في لبنان، وما هي تداعياتها وأبرز طُرق التصدّي لها؟
«سيكوباتية» النزوح
ثمة سؤال يتردّد كثيراً حيال كيفية تحلّي الفرد بالشجاعة الكافية لارتكاب جرم، أياً كان نوعه، خارج وطنه. عن ذلك تجيب أستاذة علم النفس والمحلّلة النفسية، الدكتورة رجاء مكي، في حديث لـ»نداء الوطن» وتقول إن المسألة مرتبطة بالمكان واللامكان، وكيفية قيام الإنسان باستثمارات نفسية وفرْز مواقف نفسية متعبة حين يكون في مكان غير آمن، أي المكان الذي يؤدّي إلى الغربة وعدم الطمأنينة. وتضيف: «السوري نازح ليس في بلده رغم الامتداد الجغرافي القائم بين البلدين، غير أن «الوطن» السوري يختلف عن «الوطن» اللبناني. والنازح السوري يعيش حالة من عدم الاستراحة كونه ترك منزله الأول الذي يمنحه الأمان، الطمأنينة، القدرة على تكوين الذات، الهوية والاستقرار ليعيش ضمن كادر المكان الذي يتواجد فيه حالياً».
وهكذا، يعيش النازح السوري مراحل ثلاث على الصعيد النفسي: مرحلة الأسى نتيجة ترْك المكان الأول؛ مرحلة الاندماج التي طالما كان يتمنّاها لأنه ينظر إلى اللبناني كآخَر مختلف عنه (وهنا لن نغوص في مفهوم الفوقية والدونية لأن ذلك بحث آخر)؛ ومرحلة الإحساس بالاضطهاد نتيجة الظروف الاقتصادية والاجتماعية السيّئة التي يعيشها. فما علاقة هذه المراحل بالجريمة؟ «هذا الشعور يدفع المرء لأن يرى أو يتخيّل أن هناك من يضطهده. وكنتيجة تلقائية، يتصرّف مع أي إنسان يمثّل مواصفات الشخص الذي توهّم بأنه لم ينصفه بشكل عدواني. فتظهر لديه ردّات فعل اضطهادية ويقوم بالتماهي بالمعتدي»، تجيب مكي. علماً أن ليس في مقدور أي شخص بالمطلق ارتكاب الجرائم. فالمرتكِب شخص سيكوباتي لم يتأقلم مع واقعه ويعاني من عدم استقرار نفسي، كما ينظر إلى الواقع الاجتماعي نظرة عدائية ما يدخله في مرحلة التنفيذ.
«مشاريع» إجرامية
بحسب أحدث الأرقام التي حصلت عليها «نداء الوطن» من المديرية العامة لقوى الأمن الداخلي، كان لافتاً تَصدُّر الفئات العمرية التي تتراوح بين 15 و35 عاماً لائحة الجرائم المرتكَبة من قِبَل سوريّين خلال العامين الماضيين، كما ارتفاع نسبة الجرائم المرتكَبة مِن قِبَل مَن هم دون سنّ الخامسة عشرة من 4.5% في العام 2022 إلى 9% في العام 2023 (الرسم البياني). في هذا السياق، تشير مكي إلى أن الحدث الجانح هو كل صغير في السنّ يعاني من علاقات والديّة متكسّرة. «ذلك الفرد هو مشروع انهياريّ على الصعيد النفسي وإجراميّ على الصعيد الاجتماعي لأنه يشعر بالاضطهاد والتهديد مِن كل مَن يملك مقوّمات أفضل، ما يكوّن لديه سلوك الجنحة». أما الأكبر سنّاً، فتتشكّل لديهم بيئة نفسية تهيّئهم للإجرام من خلال مجموعة مشاعر مكبوتة وذكريات ومواقف مخزّنة في اللاوعي. فعند حصول أي حدث مفاجئ، يشعر هؤلاء بأن عليهم الدفاع عن الشيء المسلوب منهم، وهو ما يُسمَى «غياب الموضوع» في التحليل النفسي. وغالباً ما يُقصد به الموضوع العاطفي. ماذا عن الإناث السوريّات؟ نسبة الجرائم المرتكَبة من قِبَلهن ارتفعت من 5% في العام 2022 إلى 8% في العام 2023. «إضافة إلى الأسباب آنفة الذكر، لا شكّ أن تَحوّل الأدوار عند الفتاة بشكل عام يمنحها مساحة أكبر للتعبير بغضّ النظر عن الوضع الاقتصادي والمعيشي والاجتماعي المُعاش. وهذا ما دفع بالفتاة السورية إلى مزيد من الحدّة في التعاطي إثباتاً لوجودها». فهي تقوم بجمع الحقد الاجتماعي والتواطؤات النفسية والتداعيات التي تمرّ بها كأنثى محرومة لتستصدر الجنوح والفعل الجرمي، ظنّاً منها بأن من شأن ذلك تحقيق عدالة وجودها الاجتماعي. يحصل كل ذلك وسط انعدام التوعية وغياب دور الأب وما يمثّله من سلطة.
سرقة… مخدرات ودعارة
ومن الفئات العمرية والجندرية إلى نوع الجريمة. فقد احتلّت السرقة، وبشكل ملحوظ، المراتب الأولى: بلغت نسبتها 34.5% من مجمل الجرائم المرتكَبة في العام 2021 لترتفع إلى 38.5% في العام 2022 وتشكّل حوالى 29% حتى أواخر تشرين الأول من العام الحالي. فما تفسير ذلك؟ مجدّداً إلى مكي التي أكّدت أن السرقة يمكن أن تكون مادية بظاهرها، لكن المقصود منها قد يرمي لأخذ ما يتمتّع به الآخر بخلافنا. «نحن نسرق الانتباه والأنظار والمحبة واهتمام الآخر بنا… وهذا طبيعي لدى النازح السوري الذي لا يحظى بدعم وعلاج نفسي فعّال».
ومن السرقة إلى حيازة وتعاطي وترويج المخدرات التي أتت في المرتبة الثانية: 11% في العام 2021؛ 19% في العام 2022؛ 18.5% حتى تشرين الأول 2023. مكي اعتبرت أن تعاطي المخدرات إدمان، والإدمان تعلُّق، والتعلُّق حالة من التبعية، وكل حالة من التبعية تهدف إلى التغطية عن شيء ما مفقود. ونعني هنا: فراغ عاطفي؛ غياب السلطة؛ عدم اقتناع الأهل (ومن ثم المجتمع) بنا وسواها. «هذا السلوك التبعي لدى النازح السوري هو سلوك تعويضي لأفراد لا يُنظر إليهم كما يجب، وذلك درءاً للفراغ العاطفي والأبوي والأُسَري الذي يكون ناقصاً في معظم الأحيان. فما يُقدَّم لهم، وهو ما يتعيّن أن يُفهَم هنا، لا يُعتبر بمثابة منحهم «الوطن» الذي هو، من وجهة نظرهم، الأم الكبرى».
ننتقل إلى جرائم التحرّش والاعتداء الجنسي، حيث رأت مكي أن المتحرّش قد يكون تعرّض للتحرّش سابقاً قبل أن يتحوّل بدوره إلى مشروع متحرّش. «في ظلّ غياب آليات ضبط النزوة والأطر الناظمة اجتماعياً، وتوافر وسائل التواصل الاجتماعي بلا حلقات توعية كما غياب القانون، تصبح هذه الظاهرة أكثر تفشّياً». أما بالنسبة لجرائم الدعارة، فتنسب مكي السبب الأساس إلى غياب القانون وتفكّك (أو انعدام) الروابط الاجتماعية التي يجب أن تعيد بلورة مفهوم رؤيتنا للعلاقات. «أظن أن هذا النوع من الجرائم استفحل علناً بين النازحين السوريّين، لا سيّما لدى الفئات العمرية المتوسطة والصغيرة، حيث هناك مسعى لجمع المال دون أي مبرّر سوى تحقيق الربح استعادةً لهوية ضائعة».
بحثٌ عن مواطنية مفقودة
بالتأكيد، ليس كلّ مجرمٍ سوري، وليس كل بريء غير سوري. لكن تداعيات الجرائم المقترَفة من قِبَل النازحين السوريّين قد تشتدّ خطورة مع غياب دور الجهات الناظمة والدولة الرادعة. مصدر قانوني مطّلع اعترض على التركيز على نسب الجرائم المرتكَبة من قِبَل النازحين السوريّين دون التطرّق إلى ارتفاع تلك النسب في المجتمع اللبناني ككلّ. وذلك يعود، من بين أسباب أخرى، إلى الانهيار الاقتصادي وضرْب العملة الوطنية وانخفاض القدرة الشرائية. ورغم أن ذلك لا يبرّر الجريمة لكن «إذا كانت السرقة عن جوع، فتُقطع يد الحاكم». ويضيف المصدر أنه حين يكون المسؤولون – أي القدوة – من الفاسدين، يمسي من الطبيعي أن يَفسد المجتمع بأكمله. فالجرائم تنتشر في المجتمعات الأكثر فقراً، وبالتالي كلما ركّزنا على اللاجئين السوريّين، وعطفنا على ذلك طريقة تعاطي المجتمع معهم ما يولّد لديهم حقداً ورغبة في الانتقام، كلما تبيّن أن الجريمة تنتشر بينهم بنِسب أعلى.
لبنان، كما نتغنّى، لطالما تميّز بانفتاحه على الآخر وتقبّله له واستقباله على أرضه. لكن كمّ الصعوبات التي يرزح تحتها البلد تحتّم ضرورة اللجوء إلى بُعد علمي وقانوني يحدّد علاقات تكيُّف النازح السوري اجتماعياً داخل البيئة اللبنانية، على حدّ قول مكي. «أظن أن الوقت حان لتصحيح فكرة المواطنية. إذ أخشى أن يكون ما يرتكبه النازحون استبدالٌ للمواطنية المفقودة في سوريا بأخرى في لبنان، وبشكل متفلّت من الضوابط، فيختلط عندها الحابل بالنابل».