كاد جواد جمعة (4 سنوات) يخسر عمره بسبب جشع المستشفيات، التي رفضت إدخاله إلى غرفة الإنعاش قبل تحصيل فروقات تعرفة الضمان. حدث ذلك عشية إعلان نقابة أصحاب المستشفيات الخاصة، في مؤتمرٍ صحافي، أمس، «نيّتها» عدم استقبال المرضى، إذا لم تحصل على مستحقاتها العالقة في ذمّة الدولة
سبع ساعات، سبح الطفل في دمه. بقي ينزف روحه بين يدي والدته، فيما والده يطوف بين المستشفيات، باحثاً عن سرير قد يفرغ في غرفة عناية مركّزة. سبع ساعات، كانت سنوات جواد جمعة الأربعة معلّقة بين حياة وموت، فيما المستشفيات تفاوض على دمه. تفاوضه بحقّه الذي هو أولوية، وتقايض بقاءه على قيد الحياة ببضع مئات من الدولارات.
ليل أول من أمس، سقط جواد جمعة، ابن الأربع سنوات، من شرفة منزله في منطقة بئر العبد. هوى من الطبقة الثانية كمنديلٍ ورقي واستقرّ فوق دمه في الباحة الأمامية للمبنى. هرع والده إليه. حمله بين يديه، متوجّهاً نحو أقرب مستشفى. في تلك الساعة الموحشة من الليل، لم يخطر ببال الوالد أن يحمل شيئاً، سوى الأمل بإنقاذ ابنه. توجّه نحو مستشفى السان تيريز، حيث أدخل الطفل إلى قسم الطوارئ. هناك، أجرى الطاقم الطبي الموجود صور أشعة للرأس وفحوصاً طبية، تبين من خلالها أن الطفل «يعاني من نزف حادّ في دماغه وحالته حرجة جداً تستدعي وضعه في العناية المركّزة»، تقول فاطمة ترمس، خالة الطفل. عندها، طلب الوالد منهم إسعافه، فكان الجواب بأنهم لا يستطيعون «لعدم وجود معدّات طبية لمعالجة تلك الحالة، ولعدم وجود غرفة عناية مركّزة للاطفال أصلاً»، تتابع.
لم يكن باليد حيلة. قال المستشفى كلمته، فكلّ ما استطاع تقديمه هو العمل على محاولة إيقاف النزف وقارورة أوكسيجين للطفل. يعني، هواء. لا شيء أكثر من ذلك. مع ذلك، وافق المستشفى على إبقاء الطفل في الطوارئ إلى حين إيجاد سرير فارغ في إحدى العنايات المركزة في مستشفى آخر. هنا، بدأ درب الجلجلة الذي انتهى بجوابٍ واضح في كل المستشفيات: لا أسرّة فارغة. في نهاية المطاف، جاء الجواب من مستشفى الجامعة الأميركية في بيروت عند الثانية والنصف فجر أمس، بأنّ سريراً قد فرغ في غرفة العناية المركزة للأطفال. قصد الوالد المستشفى، وفي باله أن الأمر لا يحتاج لأكثر «من تجهيز أوراق طفله الطبية وتعبئة الملف»، تقول ترمس، غير أن المفاجأة كانت بطلب إدارة المستشفى من الوالد مبلغ 9 آلاف دولار أميركي، بحجة فرق تعرفات الضمان الاجتماعي، للسماح بدخول الطفل، فكان جواب الوالد أنّ «معي 3 آلاف دولار، على أن أوقّع على تعهّد بإحضار المبلغ الباقي صباحاً من المصرف». غير أنّ إدارة المستشفى بقيت مصرّة على تسديد المبلغ الثالثة فجراً، إما «كاش» أو شيكاً. هكذا، قررت إدارة مستشفى الجامعة الأميركية أنّ جواد لن يدخل قبل «دخول» التسعة آلاف دولار. تلك التسعة آلاف التي صارت بعد أقل من نصف ساعة من الوقت 22 ألف دولار أميركي بعد «احتساب التكاليف المفترضة»، وهذه الأخرى يجب أن تسدّد قبل دخول الطفل. هذا ما قررته إدارة المستشفى المذكورة.
جشعها وابتزازها المواطنين في صحّتهم أنساها صوت الوالد الذي ضجت به أروقة المستشفى وتوسلاته بأن ابنه غارق في دمه. كاد جواد أن يموت، فيما المستشفى مصرّ على قبض المبلغ قبل ترميم جرح الطفل النازف حدّ الموت.
عاد الوالد خالي الوفاض إلى حيث ابنه. عملت وزارة الصحة العامة عند السادسة والنصف صباحاً على إدخال الطفل إلى مستشفى بيروت الحكومي، حيث يرقد بـ«حالته تلك بانتظار تقارير الأطباء». لكن الحكاية لم تنته هنا، فمستشفى الجامعة الأميركية، الذي يفاخر بكونه المستشفى الأول في لبنان بالخدمات التي يقدّمها للمواطنين، عاد ليفاوض الوالد على المبلغ، فقررت إدارة المستشفى أن تعمل «discount»، من 22 ألف دولار إلى 16 ألف دولار، على أن يدفع «4 آلاف قبل الدخول، فيما يدفع المبلغ الباقي خلال وجود الطفل في المستشفى»، على أنه ليس رقماً نهائياً، فقد «تزيد المدفوعات بحسب طول إقامة الطفل»، تقول ترمس، وهو ما نفته الإدارة، إذ أشارت شيرين مكارم من قسم الإعلام والعلاقات العامة إلى أن «كل ما في الأمر أن الطفل يحتاج إلى سرير في وحدة إنعاش معينة، ولم يكن متوافراً، وعندما توافر السرير أخبرنا الوالد الذي أشار إلى أنه وجد سريراً في مستشفى آخر». ونفت أن «نكون قد تطرقنا معه في الحديث عن أمور مادية». وفي هذا الإطار، قصد وزير الصحة العامة، وائل أبو فاعور، أمس، مستشفى الجامعة الأميركية، مستدعياً إياهم «شخصياً» للحضور إلى الوزارة عند «الثامنة من صباح اليوم للتحقيق في الأمر، إضافة إلى عائلة الطفل». ولفت إلى أنه إلى جانب المستشفيات في كل شيء، ولكن «إذا تخطى الأمر صحة المواطن وموته عند أبواب المستشفيات ستصبح المشكلة شخصية معي». باختصار، قال أبو فاعور إنه إذا ثبتت رواية أهل الطفل «رح يعيشوا المستشفى شي ما عاشوه بحياتهم ولا رح يعيشوه».
سبع ساعات لا تخصّ طواف عائلة جمعة على أبواب المستشفيات، ولكنها تختصر حكايات كثيرة انتهت غالبيتها بالموت في الدولة الفاشلة، التي تترك مواطنيها رهينة النظام الصحي الزبائني القاتل. دولة، الكل فيها ضالع في ابتزاز الناس بصحّتهم، انطلاقاً من المستشفيات التي تتاجر بالناس، بحجّة عدم وجود أسرّة و«ترتيلة» السقف المالي الذي، وللمصادفة، ينتهي في كلّ المستشفيات منتصف كل شهر، أضف إلى أنها مسؤولية الدولة التي تتناسى أولوياتها في هذا الإطار التي تتعلق أولاً وآخراً بإقرار نظام التغطية الصحية الشاملة ومسؤولية الجهات الضامنة التي لا تمارس سوى وظيفة مسايرة مصالح تجّار المرض. ففي ظلّ هذا النظام الجشع والقاتل، كيف نضمن ألّا يحدث لطفلٍ آخر ما حدث لجواد؟ ثم، كيف لمستشفى ترفض استقبال طفلٍ يسبح بدمه، علماً أن أخلاقيات المهنة، قبل النظام الداخلي، تقول إنّ كل المستشفيات ملزمة باستقبال الحالات الخطرة، بمعزل عن أي شيء؟ هل نسيت المستشفيات مثلاً أن العناية الطبية هي صلب عملها مثلاً؟ «لا»، قال رئيس نقابة أصحاب المستشفيات الخاصة، سليمان هارون. جاء هذا الجواب في معرض ردّه على الحادثة، مؤكّداً أنّ «المستشفيات ملزمة باستقبال هذه الحالات»، نافياً علمه بحادثة جواد التي عرفها من الإعلام وواعداً «إجراء تحقيق لمعرفة ما الذي حصل».
هارون الذي كان، أمس، يفلفش أوراق الديون المستحقة للمستشفيات الخاصة في ذمة الدولة «أمام الرأي العام»، نبّه، أو بالأحرى هدّد، بأنه في حال عدم تسديد المستحقات للمستشفيات البالغة 1660 مليار ليرة لبنانية، «ستعجز المستشفيات عن استقبال كافة المرضى، وستضطر تالياً إلى خفض عدد الحالات التي تستقبلها». ولوّح إلى أنّ هذا القرار «باتت تعرفه الجهات المعنية من وزارة الصحة إلى الضمان إلى وزارة المال، لأن نحن هنا مش عم ننضّف حيطان» وسقفه «شهر واحد».
هكذا، قرّر هارون أن مقابل الديون المتراكمة في عنق الدولة سيحرم المواطنين حقوقهم. سيمتنع عن استقبال المرضى، ولو كلّف الأمر موتهم عند أبواب المستشفيات. هكذا، ببساطة، سيقول لهم: «ما في فلوس ما في علاج».