في ظلّ الإنهيار المالي الذي طال مختلف الصناديق الضامنة في لبنان باتت شركات التأمين الخاصة تلعب دوراً محورياً اليوم في تأمين مظلة صحيّة للمواطنين. لكنه دور يحمل أكثر من إشكالية: هل يمكن لشركات التأمين الخاصة أن تكون بديلاً عن الضمان الاجتماعي؟ هل يمكن أن توفر التغطية المطلوبة للفئات الأكثر حاجة هي التي تفرض أسعارها بالفريش دولار؟ ما هي المواصفات التي يجب أن تتوافر في شركة التأمين لتلعب دوراً بنّاء ولا تكون مجرد تجارة رابحة؟
ماذا يفعل الموظف المضمون غير القادر على شراء بوليصة تأمين تغطي فرق الضمان؟ كيف يؤمن المواطن غير المغطى كلفة علاجه أو استشفائه؟ أسئلة متعددة تشير الى ان النظام الرسمي يتهاوى هنا ليحل محله النظام الأهلي وقدرة المجتمع اللبناني على التضامن ومساعدة بعضه البعض. الجهات الحزبية، المرجعيات الدينية أو السياسية، المقتدرون من أبناء المجتمع وبعض الجمعيات تتعاون لتسكير الفاتورة مع « المونة» على المستشفيات بتخفيضها، ما يحفظ للمواطن المسكين بعضاً من كرامته أو تتدخل شركات التأمين الخاصة لتحل محل هؤلاء.
ضمانة للمواطن والمستشفيات
بحسب خبرته في مجال التأمين وبيع بوالص التأمين يقدم السيد أندريه أبو حبلة صاحب شركة Hat Brokerage والمدير الإداري لشركة المشرق للتأمين وشركة Mearco بعض الأرقام التقريبية عن واقع التغطية الصحية التي تؤمنها الهيئات الضامنة في لبنان، فيقول إن ثمة 40% من التغطية تؤمنها شركات التأمين الخاصة وما بين 30 الى 35% شركات التعاضد، أما من تبقى ونسبتهم تتراوح بين 30 و40% بحسب مصادر مختلفة فلم يعد لديهم أية تغطية صحية مع الغياب شبه الكلي لتقديمات الضمان الاجتماعي، والتهام غلاء الكلفة الاستشفائية في مستشفيات لبنان هذه التقديمات حتى بعد أن تم رفع قيمتها مؤخراً. فالزيادة التي أقرها الضمان الاجتماعي لا تغطي أكثر من 1،5% من فاتورة الاستشفاء فيما كانت قيمة التقديمات السابقة تغطي 2،5% ما رفع قيمة تقديمات الضمان حالياً من فاتورة الاستشفاء الى 4%، فيما يقع على عاتق الشركات الضامنة أو الأفراد تغطية النسبة المتبقية. وهنا لا بد من الإشارة الى أن 5% فقط من المواطنين اللبنانيين يقومون بدفع كلفة استشفائهم على نفقتهم الخاصة وبالدولار الفريش، فيما 85% من حالات الاستشفاء تتولى تغطيتها شركات التأمين و10% تتولاها الجمعيات المختلفة.
هذا الواقع جعل المواطنين الخائفين من مذلة استجداء الاستشفاء والطبابة يتحولون الى شركات التأمين الخاصة ولو كانوا خاضعين لتقديمات الضمان الاجتماعي. ويقول السيد أبو حبلة إنه من أصل 1000 دولار مثلاً كفاتورة مستشفى لا يدفع الضمان الاجتماعي إلا حوالى 30 أو 40 دولاراً لذا بات المؤمّن يفضل اعتبار نفسه غير مضمون والدفع لشركة التأمين الاشتراك كاملاً بالفريش دولار لينال التغطية المطلوبة. ومن جهتها لا يمكن للمستشفيات أن تقف على رجليها لولا تغطية شركات التأمين وتسديدها الفواتير بالفريش الدولار.
أسئلة عديدة يثيرها الواقع الإستشفائي كثيرها مرّ. فكلنا نسمع عن حالات مرضية لم تغطها شركة التأمين وعن حالات استشفاء تنصلت منها. وعلى لسان من وقعوا ضحية هذه الحالات عبارة واحدة: «زعران الأسورنس». عبارة قد تكون ظالمة للشركات التي تحترم نفسها لكنها للاسف تعكس واقع العديد من شركات التأمين التي تتلطى بألف حجة وحجة للتهرب من تغطية حالات إستشفائية معينة.
لا ينكر السيد أندريه أبو حبلة أن ثمة شركات «متعثرة»، ربما لا يودّ من باب الأخلاق المهنية أن يلصق بها صفة أخرى، لكنه يقول أن هناك زعران في مجال التأمين كما في اي مجال آخر وهناك الأوادم. لكن المشكلة تقع في مكان آخر، عند الـ»بروكرز» أو الوسطاء الذين يبيعون بوالص التأمين فهؤلاء وفي غمرة سعيهم للحصول على عمولتهم قد يتحايلون على الزبون ولا يشرحون له بوضوح كل تفاصيل العقد وما تغطيه البوليصة ولا تغطيه. ومن جهتهم قد لا يتطرق بعض الزبائن الى هذه التفاصيل فـ»يأكلون الضرب» ويجدون أن ثمة مروحة كبيرة من الحالات لا تغطيها البوليصة أو ان السقف اقل مما يتوقعون.
وابحثوا عن الشفافية
من جهته يؤكد السيد روجيه زكار صاحب شركة Comin للتأمين أنه في ظل الانهيار المالي الذي طاول القطاع الصحي فإن ثمة دوراً كبيراً بات يلقى على عاتق شركات التأمين الخاصة في لبنان اليوم لا سيما بعد تراجع خدمات التأمين في القطاع العام سواء من قبل الجهات الرسمية الضامنة على اختلافها أو إثر انكفاء وزارة الصحة أو صندوق الضمان الاجتماعي. هذا الأمر جعل العبء ينتقل الى شركات التأمين الخاصة واصبحت فاتورة الاستشفاء تعتمد بنسبة 70 الى 80% عليها بعد أن كانت موزعة بين الجهات السابقة. وصارت هي البديل الوحيد عن الضمان الاجتماعي وغيره من الجهات الضامنة. لكن لا بد من توافر شروط ومواصفات لهذه الشركات حتى تؤمن الدور المناط بها وأهمها المصداقية، الشفافية، الخبرة العالمية والتغطية الشاملة للمريض. ولكن ما يجب أن يدركه كل من يودّ الحصول على بوليصة تأمين
أنها عقد يخضع للشروط القانونية مثله مثل أي عقد. على المؤمّن ان يقرأ هذا العقد ويطّلع على شروطه وأن يسأل قبل أن يوقّع ليعرف حقوقه وواجباته وأن يعي دوره تماماً في العلاقة مع شركة التأمين. واذا كانت هذه العلاقة واضحة منذ البداية وتحت سقف القانون تكون خالية من المشاكل ومنصفة للطرفين.
نسأل السيد زكار أنه لا شك أن شركات التأمين استفادت من انهيار الصناديق الضامنة الرسمية وفرضت تعريفات عالية بالفريش دولار أرهقت المواطنين فهل تحول التأمين الى تجارة تستغل وجع الناس لتحقيق الأرباح؟
فيجيب: «لا اعتقد ان تعبير تجّار التأمين يجوز في هذا السياق، لسبب أساسي وهو أنه على الزبون او المؤمّن أن يقوم بدراسة السوق وأن يتابع الأسعار والتقديمات وبإمكانه اختيار الشركة الأنسب والأكثر شفافية عبر القيام بالمقارنة بين الأسعار والخدمات، والتأكد من مستوى وسمعة الشركة. فالشركات ليست كلها متشابهة والمواطن قادر على التفريق بين شركة محترمة وأخرى كل همّها الربح.
أما بالنسبة للربح، فلا بد من شرح واقع يشهده السوق اليوم إذ صحيح انّ الأزمة المالية أدّت الى ارتفاع نسبة النمو في القطاع وازدياد الطلب على التأمين في لبنان، الّا انّ قيمة التأمين انخفضت، فقيمة عقد التأمين مثلاً التي كانت تبلغ 1000$ منذ ثلاث سنوات انخفضت الى حوالى 800$ اليوم. لذلك فإن هامش الربح لم يرتفع بل على العكس انخفضت قيمة عقد التأمين.
من جهة أخرى لطالما كانت شركات التأمين تغطي فارق الضمان، لكن اليوم هذا الهامش ارتفع. ورغم زيادة تعرفة الضمان مؤخراً يقول زكار لا نزال ندفع الكثير لتغطية الثغرة بين ما يغطيه الضمان وما يجب ان يدفعه المريض المضمون، خصوصاً الذي اشترك في خدمة تغطية كلفة فرق الضمان. صحيح أن التعرفة ارتفعت وكذلك حصة المستشفيات والاطباء ولكنها ليست كافية بعد برأينا ونحن نتكبد الفروقات كشركات تأمين خاصة لذلك بات هامش الربح محدوداً لأن المتطلبات كثيرة.
في ظل تعثر الصناديق الضامنة هل لا يزال المواطن المتوسط قادراً على الحصول على تغطية صحية وهل من برنامج تأمين يناسب قدرته على الدفع واحتياجاته؟
بالتأكيد، يقول زكار «يمكن لصاحب أي دخل أن يستفيد من تقديمات التأمين الصحي في القطاع الخاص، وعلى سبيل المثال، في شركتنا اطلقنا مؤخراً سلسلة خدمات تأمينية صحية شاملة بأسعار منطقية جداً انطلاقاً من مبدأ «التأمين للجميع» وهذا ما نؤمن به ايماناً مطلقاً ونرفض أن يذلّ المواطن على ابواب المستشفيات او ان يلجأ لمن يدفع عنه فاتورته. فالتقسيط المريح يتيح للمؤمن الحصول على خدمات صحية تخوّله حفظ كرامته. من جهة أخرى في عالم التأمين هناك ما يعرف بالـ Burning Cost أي هي عملية حسابية تقوم بها الشركات لمعرفة نسبة الكلفة ضمن فئة عمرية معينة.
مثلاً اذا كانت الفئة المؤمنة بين عمر 18 و 25 قد فاق الانفاق الصحي فيها نسبة كلفة التأمين، فإن سعر التأمين سيرتفع حتماً في السنة المقبلة لهذه الشريحة العمرية. والعكس صحيح. كلما انخفض الانفاق على فئة معينة كلما تأثر سعرالبوليصة.
الدخل لا يلعب دوراً ولا الوضع المالي للمؤّمن بل هي عملية حسابية نقوم باحتسابها سنوياً لتقييم الوضع العام بحسب درجة التأمين والكلفة نسبة للعمر. لكن الشركات تقوم بما في وسعها لتأمين أفضل الشروط للجميع.