لم تتردد إدارات المدارس الخاصة، طيلة السنوات العشرين الماضية، في ابتزاز الأهالي عبر فرض زيادات غير مبرّرة على الأقساط المدرسية وتحقيق أرباح غير مشروعة. اليوم، يوفر امتناع وزير التربية عن وضع ضوابط للموازنات المدرسية غطاءً لهذه الأرباح ويساهم في زيادة التقهقر الاجتماعي والنزوح إلى التعليم الرسمي
يحتكر «كارتيل» المدارس غير المجانية الخاصة أكثر من نصف تلامذة لبنان من ذوي الدخل المحدود المتوسّط، بدعم من الحكومات السابقة التي عملت على تدمير التعليم الرسمي. ومن بين هذه المدارس 30 مدرسة وشبكة مدارس تتحكّم بالسياسة التربوية في لبنان، ويمثّلها اتحاد المؤسسات التربوية الخاصة، وتصل أرباحها السنوية غير المشروعة من الأقساط المدرسية إلى نصف مليار دولار على الأقل، وهو رقم يحاكي أرباح المصارف. كل هذا سحبته هذه المؤسسات التي، وفق القانون، «لا تتوخّى الربح»، من جيوب الأهالي، في عشرين عاماً من الابتزاز والأقساط غير المدروسة.
بسبب الأزمة سينتقل أكثر من 250 ألف تلميذ إلى التعليم الرسمي غير القادر على استيعابهم (مروان طحطح)
وتسلك المدارس الخاصة، أيضاً، سبل المصارف في ابتزاز الأهالي الذين لا خيار لهم إلا تعليم أولادهم ولو على حساب رفاهيتهم ولقمة عيشهم. هكذا تحتجز أولادنا وتبتزّنا بفضل قرارات الوزارة التي تتغاضى عن تطبيق القوانين وتهميش القطاع الرسمي، تماماً كما تحتجز المصارف ودائع الناس بفضل تعاميم مصرف لبنان!
في السنوات الأربع الماضية، انسحب نحو 35 ألف تلميذ/ة من التعليم الخاص إلى الرسمي، وهو مؤشر لانتقال عائلاتهم من الطبقة الوسطى إلى الفقر. واليوم، بالتزامن مع الحصار المالي – المصرفي، سيتبعهم ما لا يقل عن 100 ألف تلميذ/ة مع عائلاتهم إلى طبقة الفقراء، وبالتالي إلى المدارس الرسمية، وستُغلق عشرات المدارس الصغيرة (من خارج كارتيل الثلاثين) لتعثّرها وتعثر الأهالي عن السداد، وسينتج عن هذه الأزمات آلاف الأساتذة المصروفين في بداية تموز 2020.
هذا الواقع يفرض على وزير التربية أن يكون مطلعاً على ملفات وزارته في السنوات العشرين الماضية كي يكون قادراً على حل مشاكلها، وخصوصاً أنّ الأزمة الحقيقية بالنسبة إلى أهالي التلامذة في المدارس الخاصة تكمن في تراجع أوضاعهم الاجتماعية والاقتصادية. وخسارة عام دراسي ليست كما خسارة حقّ أولادهم في التعلّم في السنوات المقبلة.
لذلك، سيساهم تجاهل الوزير للاتفاق بين ممثلي الأهل والمعلمين والمدارس، والامتناع عن وضع ضوابط الموازنات المدرسية وخفض أرقامها، ورمي الكرة في يد إدارات المدارس الخبيرة بالتلاعب المالي والابتزاز، في تحويل التقهقر الاجتماعي والتربوي إلى «سقوط حرّ»، وسينتقل أكثر من 250 ألف تلميذ/ة (أي النصف) من القطاع الخاص إلى الرسمي، في العامين المقبلين، مع تراجع دخل العائلات اللبنانية بشكل فاضح والارتفاع المستمر للأقساط مقابل هبوط قيمة الليرة وانتشار البطالة.
في المقابل، لن تستوعب المدارس الرسمية هذه الموجة، ولا يمكن لها التأقلم مع هذه الأعداد الوافدة، لذلك سيبقى عشرات الآلاف من دون مدارس، أو يتلقون تعليماً غير مكتمل الشروط وبمستوى أدنى للخدمات وطرق التعليم.
في السنوات القليلة الماضية، سعت لجان الأهل إلى تحديد ضوابط لتجاوزات قانونية وتنظيمية لمشكلة الأقساط المدرسيّة، وقبل ذلك، ناشدت الدولة أن تدعم التعليم الرسمي وتجعله متساوياً مع الخاص بل أفضل. وهي تجهد لحماية حقوق الأهالي وحق أولادهم في التعلّم، من خلال مطالبتها بتطبيق القوانين، وتعيين مجالس تحكيمية تربوية، والتدقيق في الموازنات المدرسية، واستقلالية قرارات مصلحة التعليم الخاص عن التسويات الربحية للمدارس، واستعادة الأموال المنهوبة من صناديق السلف، وغيرها.
ولكن، بعد سنوات النضال هذه، يتخلى وزير التربية عن اتفاق موقّع من جميع مكونات العائلة المدرسية، كما فعل الوزراء السالفون، ليعلن أن الإدارات المدرسية ستعالج خفض موازناتها وتستفرد بلجان الأهل فيها من دون حماية قانونية أو غطاء من الوزارة، فتعيد المدارس بسط سطوتها على الأهالي بتوقيع للجنة خاضعة ومتواطئة من هنا، أو بالضغوط والإغراءات من هناك، أو تقديم شكاوى منفردة للجنة أهل معترضة عبر «باب الوزارة المفتوح».
لقد طرق الأهالي باب الوزارة في السابق واليوم، ولا يزالون يطرقونه ولكن ما من مجيب. فقد أُغلق الباب في وجههم بعدما فُتح للحظة، ثم أُغلق مجدداً في وجه المطالبين بالعدالة. فهل ننسى تحويل 69 مدرسة إلى المجلس التحكيمي في عهد الوزير مروان حمادة قبل أن يختفي الملف؟ وهل ننسى عرقلة تعيين مجالس تحكيمية تربوية في زمن الوزير أكرم شهيب، وعشرات الملفات من تزوير ولفلفة شكاوى وتجاهل اعتراضات؟
هل استشرف الوزير طارق المجذوب آثار قراره بتجاهل وضع ضوابط على الموازنات المدرسية لهذا العام والأعوام المقبلة أو درس أثره الاجتماعي والاقتصادي على العائلات؟ هل فكّر بما سيحل بعشرات آلاف التلامذة النازحين من التعليم الخاص إلى الرسمي؟ هل يدعم قراره حقّ التعلّم ويساوي بين المتعلمين في الوقت الذي نسعى فيه إلى رفع مستوى التلامذة في التعليم الرسمي؟
ما حصل أن الوزير المجذوب أقفل باب الوزارة في وجه الأهالي والتلامذة وهم لن يجدوا مقاعد لهم في مدارسها ولا من يرعاهم، وهم لن يصدقوا أقوال الوزير أو أقوال الإدارات المدرسية المنمّقة. يريدون وضع ضوابط قانونية واضحة لهذه العلاقة، وأن تكون الوزارة حافظةً للعدالة، ونموذجاً لدولة الرعاية الاجتماعية، ومنبراً للدفاع عن حقوق الجميع.
وكانت مكونات الأسرة التربوية المتمثلة بالمؤسسات التربوية الخاصة ونقابة المعلمين ولجان الأهل وقعت اتفاقاً في 3 الجاري برعاية وزارة التربية تضمن الطلب من الوزارات والصناديق الضامنة إعادة النظر بالمساهمات والاشتراكات المستحقة على المدارس، وإصدار وزير التربية قرار يضع فيه ضوابط لإعادة درس موازنات المدارس في مهلة أسبوعين، وتتكافل المدارس مع الأهل وتعفي اولياء الأمور من المستحقات المتوجبة للمدارس عن السنوات الماضية والمصنفة في خانة الديون، بنسبة تعادل ما يدفعه الأهل عن العام الدراسي الحالي، وذلك حصراً لذوي الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية الصعبة، والعمل مع الجهات المانحة (الجيش، قوى الأمن الداخلي، تعاونية الموظفين) لتسريع دفع المنح الدراسية المستحقة
مباشرة للمؤسسات التربوية.
قرار بتعديل الموازنات بلا ضوابط
ليلاً، تسلل قرار صادر عن وزير التربية طارق المجذوب، أعلنه المدير العام فادي يرق، في حديث تلفزيوني، يقضي بالطلب من المدارس الخاصة إيداع مصلحة التعليم الخاص في المديرية العامة للتربية ملحقاً عن الموازنة المدرسية للعام 2019 -2020 بعد إعادة درسها، نظراً إلى الظروف الحاصلة، وتوقيعه بحسب ما نصت عليه أحكام القانون 515، في مهلة أقصاها 22 الجاري. وفي حال عدم الاتفاق، تبلغ مصلحة التعليم الخاص بموجب كتاب من المدرسة توضح فيه أسباب عدم التوصل إلى اتفاق، لإجراء اللازم من قبل الوزارة. وتمهل مصلحة التعليم الخاص 5 أيام بعد إيداعها الملاحق لرفع تقرير مفصل إلى وزير التربية بأسماء المدارس التي لم تتوصل فيها إدارات المدارس إلى حل مع باقي الأسرة التربوية.
القرار فاجأ اتحادات لجان الأهل التي كانت قررت تنفيذ وقفة احتجاج اليوم على الأقساط والعودة إلى الصفوف، وقد وصفته مصادرها باللغم، باعتبار أنه سيكون لصالح المدارس إذا لم تضع وزارة التربية ضوابط كما تقرر في الاجتماع بين ممثلي الأهل والمعلمين والمدارس، مثل خفض الأقساط 35% كحد أدنى.
توضيح من «القديس يوسف – عينطورة»
رداً على ما نشرته «الأخبار» تحت عنوان «المدارس الخاصة تهدّد الأهالي…» (8 أيار 2020)، توضح «مدرسة القديس يوسف عينطورة» أن ما نُسب إلى المدرسة بأنّها «استبقت قرار الوزير الذي تأخّر أربعة أيّام، بمطالبة الأهل بدفع القسطين الثاني والثالث ضمن مهلة محدّدة، تحت طائلة عدم تسجيل أبنائهم وعدم حجز أماكن لهم في العام الدراسي المقبل» مخالف للحقيقة. فقد سبق لإدارة المدرسة أن طالبت بضرورة تسديد القسطين الأول والثاني في التواريخ المعتادة أي مهلة أقصاها بتاريخ 30 أيلول 2019 للقسط الأول و31 كانون الأول 2019 للقسط الثاني، وهذه التفاصيل مدوّنة في النظام الداخليّ. وفي 04/05/2020، أصدرت المدرسة التعميم الرقم س ج/ن ف/ 68 وذكّرت بموجبه الأهل بضرورة المبادرة إلى تسجيل أولادهم للسنة الدراسية المقبلة 2020 – 2021، ليتسنى للإدارة تنظيم وتحضير السنة المذكورة في ظل الظروف الاستثنائية الراهنة. ومراجعة مضمون التعميم تثبت بأن المدرسة لم تضع أي شرط ولم تقدم على التهديد بالطرد