تقمع إدارات المدارس الخاصة أي مبادرة، مهما كانت متواضعة، لتصويب مسارها وفضح أرباحها. تستخدم تلامذتها وقوداً للحرب المفتوحة مع أهاليهم، تتعمد أساليب الإذلال والعقاب النفسي والمعنوي لفرض الصمت، ضاربة بعرض الحائط القرارات القضائية والوزارية والاتفاقيات الدولية، ومن دون إعارة أي اعتبار لتدمير نفسية الطفل ـ الإنسان والمواطن ولأمانه الفردي والاجتماعي
«احتجاز» الأطفال في بعض المدارس وعزلهم في قاعات مغلقة لم يثر نقاشاً اجتماعياً حتى الآن. برأي تربويين واختصاصيين نفسيين وحقوقيين، هذه المسألة غير قابلة «للقيل والقال». مثل هذا التدبير انتهاك مباشر لاتفاقية حقوق الطفل التي قاربت أن تطوي ثلاثين عاماً من عمرها، والتي صادقت عليها الدولة اللبنانية.
ما يحصل هنا وهناك يُفقد التلميذ، حتماً، الإحساس بالأمان الذي سينتج عنه الإحساس بالحب والانتماء إلى المكان وتقدير الذات وتحقيق الذات والتكامل العالي وتكوين الشخصية. يتجاهل تماماً أن الطفل إنسان، ومواطن اليوم والغد، له احترامه واستقلاليته واسمه واعتباره، وليس بعيداً أن يسبب مثل هذا الفعل الاكتئاب وصولاً إلى التسرب من المدرسة.
الأولاد وقود المواجهة
التلامذة، المحميون بالمادة 10 الفقرة ب من القانون 515/1996، لا يسلمون من استخدام مدارسهم لهم باستمرار خلال مواجهات بدأت تنشأ، أخيراً، بين أصحاب المدارس الخاصة من جهة ولجان الأهل أو الأهالي بشكل فردي من جهة ثانية، بهدف قمع أي محاولة لتصويب مسار عمل هذه المدارس التي لم تتوان ولا تزال عن فرض زيادات عشوائية وغير مبررة على الأقساط المدرسية.
هذا ما حصل في السنوات القليلة الماضية مع تلامذة الليسيه الفرنسية اللبنانية الكبرى في بيروت التابعة للبعثة العلمانية الفرنسية، وتلامذة المدرسة المعمدانية الانجيلية، وهذا ما يتكرر اليوم مع الليسيه الفرنسية اللبنانية ـ فردان التابعة أيضاً للبعثة الفرنسية، وثانوية روضة الفيحاء في طرابلس، وغداً ستكون هناك مدارس أخرى.
أول من أمس، لم يكن أحمد عبد الله في موقف يحسد عليه، فالأب كان ضائعاً، وخائفاً على مصير أبنائه المفصولين من ثانوية روضة الفيحاء بحجّة «تحريض» والدهم على المدرسة بسبب رفعها لأقساطها السنوية، متوسلاً طرق التواصل الاجتماعي.
قد تسبب هذه الإجراءات الاكتئاب وصولاً إلى التسرب من المدرسة
الوالد المتعب حضر إلى وزارة التربية برفقة زوجته وأولاده للمطالبة بعودتهم إلى مقاعدهم، عملاً بقرار الوزير مروان حمادة، الصادر في 31 آب الماضي، والقاضي بتسجيلهم تحت طائلة اتخاذ الموقف الملائم حال إخلالها بهذا الموجب، وصدور قرار عن قاضي الأمور المستعجلة بإعادة تسجيلهم في قيود المدرسة تحت طائلة غرامة إكراهية قدرها 500 ألف ليرة عن كل يوم تأخير. واستند حمادة إلى «حق الطفل بالتعلم ومتابعة تحصيله الدراسي ما لم يرتكب بالذات إخلالاً مسلكياً يبرر فصله عنها، ولا يجوز بأي حال الارتكاز على أي تصرف صادر عن ولي أمر تجاه المدرسة لحرمانه من الحق في هذه المتابعة». مع ذلك، تعنتت الإدارة في تطبيق القرارين و«حجزت» حرية ابن السادسة عشرة من السابعة والنصف صباحاً وحتى الثانية عشرة والنصف في غرفة الناظر من دون السماح له بالعودة إلى المنزل أو الاتصال بأبيه. «الأخبار» علمت من مصادر مطلعة أن المدرسة لم تستقبل حتى اليوم أبناء عبد الله رغم تسلمها كتاب الوزير.
الوضع في الليسيه الفرنسية ـ فردان لم يكن أشفى حالاً، فأبناء الأهالي المعترضين على الزيادة على القسط المدرسي في العام الماضي «احتجزوا» في بداية هذا العام في قاعة واحدة، في انتظار أن يدفعوا قيمة هذه الزيادة. اليوم، لا يزال هناك تلامذة كثر خارج صفوفهم رغم مرور أسبوع على بداية العام الدراسي، ورغم تدخل كل من الوزير والقضاء. فقد طلب حمادة، وربما تكون سابقة شكلت غطاءً للأهالي، بملاحقة المدرسة أمام المجلس التحكيمي التربوي في بيروت لإصدار القرار اللازم بشأن النزاع القائم مع قسم من أولياء الأمور وليس مع لجنة الأهل، وأبلغ لجنة الأهل بالإحالة إلى المجلس التحكيمي، ونظراً لتعذر ابلاغ المجلس لعدم اكتماله، فقد قرر الوزير ابلاغ اللجنة امكانية مراجعة قاضي الأمور المستعجلة. وكان القضاء المستعجل قد أصدر من جهته قراراً بإلزام البعثة العلمانية بصفتها صاحبة إجازة الليسيه بتمكين بعض الأولاد الذين تقدم أهاليهم بشكوى من الدخول إلى المدرسة تحت طائلة غرامة اكراهية قيمتها 5 ملايين ليرة لبنانية.
فقدان الإحساس بالأمان
«هل ما يقال؟»، كانت هذه ردة الفعل الأولية التي أبدتها فاديا حطيط، أستاذة الطفولة المبكرة في الجامعة اللبنانية، على تدابير المدارس، في اشارة إلى أن استقبال الأطفال في صفوفهم حق بديهي مكفول بالأعراف والقوانين والاتفاقيات الدولية، «فلا يجب أن يغيب عن الأذهان بأنّ الطفل إنسان له كيانه الخاص ومواطن يجب أن يكون موجوداً، وأن يحترم بمعزل عن أي شيء آخر ولا يجوز بأي حال من الأحوال اتهامه أو وصمه بأنه ضعيف وغير قادر وأخذه رهينة أو ضحية». تستدرك حطيط أن المدارس تعلمّ هذه الحقوق نظرياً وتناقض نفسها فلا تجد لها تطبيقاً على أرض الواقع. برأيها، «لجنة الأهل تتحمل مسؤولية رفع الصوت للتعريف بالمشكلة ومحاسبة إدارة المدرسة، فيما الدولة، رأس الهرم، هي المسؤول الأول بسياساتها لكونها قد صدّقت اتفاقية حقوق الطفل، ولا ينبغي أن تكون المدارس الخاصة في جزيرة مستقلة خارج سلطتها، ونحن اليوم نشعر أن حرية التعليم الخاص مطاطة ولا نعرف حدودها رغم أنها مصانة بالدستور».
تحيلنا أستاذة علم النفس التربوي في الجامعة اللبنانية ريماز حرز إلى هرم ماسلو للحاجات (Maslow’s hierarchy of needs)، وهي نظرية نفسية قدمها العالم الأميركي أبراهام ماسلو تناقش ترتيب حاجات الإنسان ووصف الدوافع التي تُحرّكه؛ وتتلخص هذه الاحتياجات في: الاحتياجات الفسيولوجية، وحاجات الأمان، والاحتياجات الاجتماعية، والحاجة للتقدير، والحاجة لتحقيق الذات.
تشرح حرز أن الإجراءات الحاصلة في المدارس تفتقد للحس التربوي، فالطفل «المحجوز» الذي فقد الإحساس بالأمان وشعر بالإهانة والاحتقار في مدرسته وعلى مرأى من أترابه يكون الهرم لديه مهزوزاً ولا يستطيع أن ينتقل إلى الحاجات الأخرى وهي الشعور بالحب والانتماء وتكوين الشخصية، ويكون التسرب أحد الخيارات التي يلجأ إليها للهروب من المكان.
الشعور بالخجل الاجتماعي
رائد محسن، عميد شؤون الطلاب في الجامعة اللبنانية الأميركية والمتخصص في التواصل الإنساني، يقول إن هذا التدبير يُشعر الأطفال بالعيب والعار والخجل الاجتماعي، وبأنهم «عاطلين» ودون المستوى… بكل شيء وليس المستوى المادي فقط، ويخشون بأن يعيرهم رفاقهم في الملعب بنغمة التمريك «شو أهلكم ما معهن مصاري؟». مثل هذا الكلام يهز، بحسب محسن، شخصية الطفل ويصيبه بالاكتئاب.
بحسب الأمين العام السابق للمجلس الأعلى للطفولة ايلي مخايل، لا يضرب «حجز» الأولاد في قاعة مقفلة حق التعلم فحسب بل يضرب مصلحة الطفل الفضلى ونموه النفسي والعاطفي والاجتماعي، وأيضاً مبدأ عدم التمييز، إذ كثيراً ما نجد مدارس تطلب من التلامذة أن يختاروا مدرسة أخرى أقل كلفة، وهذا غير مقبول من منطق الحقوق، فالدولة هي طرف في اتفاقية حقوق الطفل ومعنية باحترام موجبات هذه الاتفاقية وتقع عليها مسؤولية رسم سياسات اجتماعية مستندة إلى هذا المبدأ ولا يجوز ترك الأمر على الغارب لجشع بعض أصحاب المدارس الذين تخلوا عن مهمتهم الرسالية لصالح الانتفاع.