في ظل غياب الأطر والمعايير الموحّدة
عادت مسألة الأقساط المتفلتة والزيادات العشوائية عليها في المدارس الخاصة إلى الواجهة، بعد أن قدّمت اللجان النيابية المشتركة منتصف شهر كانون الأول الماضي اقتراح قانون يرمي إلى تجميد العمل بالمادة الثانية من القانون 515 – أي قانون تنظيم الموازنة المدرسية ووضع أصول تحديد الأقساط في المدارس الخاصة – الذي ينص على أن تشكل الرواتب والأجور، ما نسبته 65% على الأقل من أرقام الموازنة بينما تشكل باقي النفقات 35% على الأكثر. هذا الاقتراح جاء بهدف إعطاء الفرصة للمؤسسات التربوية لإيجاد التوازن في موازناتها بدون تحديد أي سقف لتوزيع النسب.
وقبيل نهاية شهر كانون الأول، نجح اتحاد لجان الأهل وأولياء الأمور في المدارس الخاصة في لبنان في إيقاف عجلة اقتراح تجميد المادة الثانية من القانون أعلاه مقدماً دراسة تفصيلية تضع أصولاً وضوابط لسقف زيادة الأقساط ومحذراً النواب من عواقب التصويت على هذا القانون، إذ إن أولى تبعاته ستتمثّل بتجاوز الأقساط المدرسية والزيادات اللاحقة بها في المدارس الخاصة أي ضوابط أو قيود.
حسناً. لكن من يضع في “الوقت الضائع” حداً لظاهرة تفلّت الأقساط في بعض المدارس الخاصة؟ فهناك مدارس أقرّت زيادة بنسبة تخطت الـ100% على أقساطها وأخرى فرضت على ذوي الطلاب تسديد جزء من القسط بالدولار (يتراوح بين 300 و600 دولار في بعض الأحيان والبعض من هذه الحالات جرت بموافقة لجان الأهل)، وهو أمر مخالف للقانون حسبما صرّح مؤخراً وزير التربية والتعليم العالي أيضاً.
في ما يلي جولة على عدد من المدارس واستمزاج لآراء أصحاب الشأن لإلقاء مزيد من الضوء على هذه القضية الحيوية والحساسة.
الزيادات طبيعية؟
نبدأ من المدارس الإنجيلية حيث فرض القسم الأكبر منها زيادة نسبتها 70% على الأقساط المدرسية للعام الدراسي 2021-2022، وهي نسبة يُتوقع أن ترتفع بعد إقرار تسديد بدل نقل الأساتذة على أساس التعرفة الجديدة (65000 ليرة) وإعطائهم مبالغ تحفيزية كما الدرجات الست. حاولنا التواصل مع أمين سرّ لجنة الشؤون التربوية والتعليمية في المدارس الإنجيلية التابعة للسينودس الإنجيلي، لكنّه تمنّع عن الإدلاء بأية معلومات. فتوجهنا بالسؤال إلى أمين عام رابطة المدارس الإنجيلية في لبنان، الدكتور نبيل قسطا، الذي عزا زيادة الأقساط إلى سببين رئيسيين: الأوّل رفع رواتب الأساتذة ومنحهم الدرجات المحقة، والثاني ضرورة التماشي مع تغيّر الأسعار وانهيار العملة. ويرى قسطا من الطبيعي أن يصل معدّل الأقساط في المدارس الإنجيلية إلى 10 ملايين ليرة بعد أن كان 5 ملايين ليرة قبل اندلاع الأزمة (أي بزيادة قدرها 100%).
أما عن دور الهبات الخارجية، التي تحظى بها المؤسسات التربوية الإنجيلية عادة من جهات داعمة غربية، فقد برر قسطا عدم إدراجها في الموازنة السنوية للمدارس كونها منحاً خاصة للطلاب. ألم تكن تلك الهبات لتساهم في تخفيض الأقساط المدرسية لو أدرجت من مبدأ الشفافية ضمن الإيرادات؟ يجيب قسطا: “الزيادة ليست خيالية إذ إننا نتكلّم عن مبلغ 200 دولار لا أكثر”.
رفع الأقساط آت عاجلاً أم آجلاً
بدورها، لم تبادر المدارس الكاثوليكية حتى الآن إلى رفع أقساطها “حرصاً منها على عدم تحميل الأهل أعباء إضافية”. ففي حديث مع أحد المسؤولين في المكتب التربوي في الأمانة العامة للمدارس الكاثوليكية، أكّد أن الأزمة مريرة وقد طالت كافة المدارس الكاثوليكية في لبنان البالغ عددها 365 مدرسة ليضيف: “الأقساط في مدارسنا زهيدة أساساً مقارنة مع مدارس أخرى، إذ تتراوح بين مليونين و5 ملايين ليرة”. وبما أنّ هذه الأقساط لم تعد تكفي لتغطية مصاريف المدرسة، وبعد أن تمّ استنزاف الصندوق العام للمدارس الكاثوليكية، ورغم المساعي لعدم إقرار أية زيادة، إلّا أنّ الوضع الراهن سوف يحتّم اتخاذ قرار برفع الأقساط شرط ألّا تتعدى الزيادة الـ35%.
وعن سؤال حول ما إذا كانت المدارس الكاثوليكية تحظى بأي تمويل يساعدها على الاستمرار، لفت المسؤول إلى أن الاتكال أساساً هو على المبادرات الفردية المتمثلة بقدامى المدارس المتمولين، الجمعيات الخاصة والأفراد المقتدرين. وختم قائلاً: “لكن هذه المبادرات تبقى خجولة مما جعل 80% من مدارسنا عاجزة لغاية الآن عن تسديد الدرجات الست للأساتذة”.
المدرسة، الأساتذة والأهل “بنفس الخندق”
ننتقل إلى المدارس الإفرادية الخاصة في لبنان التي يبلغ عددها 120 مدرسة ويملكها أفراد لا مرجعية رسمية تحتضنهم. لكن مع ذلك، إلا أن غالبيتها لم تفرض زيادة على الأقساط لتاريخه، فيما البعض القليل منها أقرّ زيادة تراوحت بين 30 إلى 35%. هنا يقول نقيب أصحاب هذه المدارس، السيد وجيه متى، أن المدرسة كما الأساتذة والأهل “بنفس الخندق”. ففي ظل عدم تحمّل الدولة لمسؤولياتها، “لا يمكننا التفاؤل بالقدرة على الاستمرار”. وأشار متى إلى أنّ الواقع الجغرافي يتحكّم بقدرة المدرسة على تحمّل الأعباء أو تحميلها لذوي الطلاب متأثرة بالوضع الاجتماعي للأهالي من جهة، وبكلفة المصاريف التشغيلية من جهة أخرى. فالمدارس الواقعة في بيروت لا حاجة للتدفئة فيها، مثلاً، على عكس تلك المتواجدة في المناطق الجبلية والبقاعية الداخلية. ويضيف: “70% من طلابنا هم من الطبقة الوسطى التي تحولت بعد الأزمة إلى طبقة فقيرة، فإذا أضفنا مبلغ مليون ليرة على القسط المدرسي، من أين لذويهم أن يأتوا به؟”.
وعن مصادر التمويل، يجيب متى أن المدارس الإفرادية لم تحظ يوماً بمساعدات خارجية، في حين يبدو أن مبلغ الـ350 مليار ليرة الذي أقرّ توزيعه على المدارس الخاصة إبتلعته أيدي الدولة الخفية كما باقي المساعدات.
مزيد من عصر النفقات
إلى نموذج آخر. فلا زيادة حتى اليوم في المدارس التابعة لرهبنة إخوة المدارس المسيحية المعروفة باسم “الفرير” والتي تضم، على سبيل المثال، مدارسSacré Coeur،Mont la Salle وSaint Vincent de Paul. وفي اتصال مع مصدر مقرّب من إدارة مدرسة Sacré Coeur، أفدنا بأنّ “التعليم في مدارس الرهبنة هو رسالة خير، ويجب التفكير بوجع الأهل الذي لا يختلف عن وجعنا. فاعتمادنا هو على الهبات الممنوحة والتي ساهمت في تأمين الاستمرارية بتقديم هذه الرسالة رغم كل المعوقات”. كما أكّد المصدر على حصول الأساتذة على حقوقهم كاملة كما على التساهل الذي تتعاطى به المدارس مع الأهل، مردفاً: “من المستحيل أن نقوم بحجز ورقة العلامات أو التمنع عن إعطاء الإفادات، فالأمر مناف للقانون والأخلاق. لكن في حال تواصلت مفاعيل الأزمة، فمن المتوقع إقرار زيادة تتراوح بين الـ20 والـ35%”.
وبالنسبة لاعتماد سياسات تقشفية، أشار المصدر إلى التخفيف قدر الإمكان من مصاريف الطباعة والاستعاضة عنها باللجوء إلى الموقع الالكتروني الخاص بالمدرسة، كذلك الحدّ من مصاريف الهاتف والكهرباء، وإلغاء القرطاسية. “فجميعها وسائل ساهمت في تقليص المصاريف من دون التأثير على نفسية الطلاب”.
مصير آلاف الطلاب على المحك
محطتنا التالية كانت في طرابلس مع مدرسة الإيمان التابعة لجمعية التربية الإسلامية والتي تضمّ أكثر من ألفي تلميذ وتبلغ فيها التكلفة الأعلى للقسط 5400000 ليرة. يشير مدير المدرسة، الدكتور باسم حموضة، إلى أنّ المدرسة لم تتبنّ، حتى اليوم، سياسة زيادة الأقساط حرصاً منها على عدم المساهمة بتدمير القطاع التعليمي، رغم أنّ التكلفة الحقيقية للطالب الواحد أصبحت تتخطى راهناً 20 مليون ليرة. فالمدرسة تعتمد على بعض الهبات من المجتمع المدني لا سيّما وأن وعود دار الفتوى بتقديم الدعم لم تترجم واقعاً بعد. ويُصرف الجزء الأكبر من هذه الهبات على الدعم المباشر للمعلمين فيها. فمن وجهة نظر حموضة، “الرواتب منظمة والأساتذة متفهمون وصابرون”. لكنه طالب الدولة بتحمّل مسؤولياتها وإلا فالوضع كارثي، إذ “لا ضمانات حيال قدرتنا على الاستمرار، ما يهدد مستقبل ألفي طالب”.
وعن كيفية التوفيق بين الإيرادات المحدودة والمصاريف المتزايدة، تابع حموضة قائلاً أن اتجاه المدرسة هو إلى تحميل تكلفة مصاريف التأمين وتصوير المستندات إلى الطالب – بعكس ما درجت عليه العادة – والمتمثلة بمبلغ 500000 ليرة للطالب الواحد. “فنحن نحاول الاستمرار باللحم الحي لأن الأهالي منهكون والأستاذ مدمّر والضحية الأكبر تبقى الطالب تحديداً”.
أين دور لجان الأهل؟
تشير رئيسة اتحاد لجان الأهل وأولياء الأمور في المدارس الخاصة، السيدة لما الطويل، إلى أن الزيادات تتسم بالعشوائية بدون موازنات شفافة تبنى عليها، كما أن فرض دفع جزء من الأقساط بالعملة الصعبة هو أمر غير قانوني. ورأت في اقتراح قانون تجميد المادة الثانية من القانون 515 محاولة لضرب التوازن بين الإيرادات والنفقات، كونه يلغي السقوف القانونية لتحديد الأقساط ويفرض الزيادات ويفسح المجال أمام المدارس لتحديد السقوف كما ترتأي بدون رادع. وتفادياً لموجة جديدة من “التسرب المدرسي” على غرار ما حصل في الفصل الأول من السنة الدراسية، حيث نزح أكثر من 60 ألف طالب إلى المدارس الرسمية، ذكرت الطويل أن الاتحاد طالب، من خلال دراسة قدمها إلى مجلس النواب، الاستعاضة عن توقيف العمل على تجميد المادة الثانية بتجميد بعض النفقات غير الضرورية في المدارس الخاصة، كالاحتفالات، تعويض صاحب الرخصة، الاستهلاك والتطوير والتجديد وغيرها من البنود، كما إلزام المدارس اعتماد خطة تقشف في مصاريف الكهرباء والهاتف ورسوم فتح الملفات، إضافة إلى ضرورة إدراج الهبات وأرباح الكافيتيريا والنشاطات المختلفة الأخرى ضمن إيرادات الموازنة، ما سينعكس حتماً على تقليص نسب الزيادات المفروضة على الأهالي.
من ناحيته، عبّرالسيد ريمون فغالي، رئيس اتحاد هيئات لجان الأهل في المدارس الخاصة، عن أسفه من محاولة البعض الإساءة إلى صورة المدارس الخاصة بما في ذلك من انتقاص لمبادئ الاتحاد ولدور لجان الأهل. وفي حين لم ينكر فغالي تواطؤ بعض لجان الأهل مع إدارات المدارس، إلا أنها برأيه حالات لا يجب أن تُعمّم على الجميع. وأضاف أنّ الزيادات المفروضة عادلة جداً مقارنة مع الوضع الراهن. “فإذا أردنا احتساب الزيادة الحقيقية للأقساط، لا يجب أن تقلّ عن 160%، لكنّ المدارس تتعامل برحمة مع الأهالي وتقبل بأقلّ الأضرار الممكنة”. كما لفت إلى انعكاسات تجميد المصارف لأموال المدارس علماً أنها ليست ملكاً خاصاً وإنما تعود إلى تعويضات نهاية الخدمة للموظفين والأساتذة. أما عن إدراج الهبات ضمن إيرادات الموازنة، فلفغالي رأي مخالف: “إذا كانت الهبات لدعم أقساط الطلاب، فلمَ إدراجها في الموازنة؟”. ثم، بعكس الطويل، أيّد فغالي العمل على تجميد المادة الثانية المشار إليها آنفاً وأن تقدّم كل مدرسة موازنتها بحسب نسب مصاريفها.
باختصار، إنها فعلاً فوضى عارمة وتنذر بانعكاسات سلبية في مقبل الأيام. فالآراء حول تحقيق الزيادات ونسبها متضاربة والاختلافات، حتى على صعيد لجان الأهل، جارية على قدم وساق. وفي ظل غياب المرجعية الرسمية الموحّدة وتعدد “استراتيجيات” المدارس كما عدم وجود بوادر أي حلحلة تُذكر على الصعيدين الاقتصادي والمعيشي، ما على ذوي الطلاب سوى توقّع الأسوأ…