المعنيون يتلهّون بالامتحانات والتعليم عن بُعد
من المحتمل أن يكون الفيروس التاجي “كوفيد19” قضى على العام الدراسي، وحبس مئات آلاف التلامذة ومعهم أساتذتهم في المنازل. لكن من المؤكد أنه قتل المدارس الخاصة وبشراسة لتنضم هذه المؤسسات التي يفوق عمرها المئة عام الى فئة الـ1% من نسبة الوفيات الناجمة عن الفيروس الفتّاك.
بغضّ النظر عن أساليب التعويض على التلامذة، وبعيداً من شدّ الحبال لناحية إلغاء الامتحانات الرسمية أم عدمه، يبقى الأهم إنقاذ المدارس الخاصة التي أتى كورونا ليقضي عليها بشراسة لكن من دون أن يكون للحكومة ومعها وزارة التربية والتعليم العالي حدّ أدنى من الحكمة لوضع استراتيجيّة تنقذ القطاع التعليميّ الخاص وتحسّن مستوى المدارس الرسميّة.
التعليم عن بُعد، سبل التعويض على التلامذة… كلها عناوين فضفاضة أتحفنا بها وزير التربية والتعليم العالي في إطلالته الإعلامية الاخيرة لا بل اليتيمة الاسبوع الفائت. وهو بالكاد تطرق الى أعماق المخاطر المحدقة بملف يطال نحو 3000 مدرسة خاصة تضم حوالي 550 ألف تلميذ ومن ضمنها 360 مدرسة خاصة مجانية تحوي حوالى 140 ألف تلميذ من أصل مليون و100 الف تلميذ في لبنان، بالاضافة الى أكثر من 80 الف موظّف.
لكن ماذا عسانا نتوقع من حكومة “التطنيش” على الاموال المنهوبة، وحكومة الامكانات المحدودة. المحدودة فقط عندما يتعلق الامر بالقطاعات الاستشفائية والتربوية والمعيشية فيما دولاراتها حاضرة لإتمام صفقات على غرار سد بسري رغم أنوف اللبنانيين، وفي وقت يُشحّذ فيه الفقراء 400 ألف ليرة شهريا علّها تكفي لشراء الخبز.
خطر الإقفال
في زمن الثورة والاشمئزاز من الطبقة الحاكمة وفسادها وتواطئها مع الكثير من المؤسسات الكبرى في مختلف القطاعات، يبدو سهلاً توجيه السهام الى المدارس الخاصة. ظاهرياً هذه المدارس مملوكة إما من مؤسسات دينية أو انها تشكل امتداداً لمدارس أجنبية عالمية وبذلك تجني أرباحاً طائلة وهي معفاة من الضرائب. لكن في الواقع، ولدى التوغّل في التفاصيل يتبيّن أن شأن المدارس الخاصة في لبنان كأي “بيزنيس”، ذلك يعني أن لديها تكاليف ونفقات تحتاج إلى تلبيتها، ويمكن أن تنتهي بها الحال الى الافلاس ان استمرّت بتسجيل خسائر على مدى السنوات. باختصار، المدارس الخاصة مهددة بالاقفال. الناس باتوا مفلسين وليس هناك من بديل لا سيما وأن المدارس الرسمية غير مؤهّلة كما أنها تفتقر الى القدرة الاستيعابية وبالتالي وفي حال تفاقم الوضع، لن تتمكن من استيعاب طلاب المدارس الخاصة.
ليس هذا التهديد وليد الأمس بل انه يبدأ حتى قبل تاريخ إقرار سلسلة الرتب والرواتب العام 2017 والتي يرى فيها البعض أصل الازمة التربوية، ولا ينتهي عند حدود تقاعس الاهالي عن دفع الاقساط ليس فقط للعام الجاري بل انما طوال الاعوام الخمسة الاخيرة جراء الاقتصاد المزري.من وجهة نظر المدارس، للمعلمين والاساتذة حقوق عليها، وهي مرتبطة بعقود لـ 12 شهراً، كما وانها لا تتضمن حالات الطوارئ، بالتالي ليست العقود تشغيلية. وعليه، فإنّ المدارس ملزمة بتسديد كامل رواتب معلميها وموظفيها عاجلاً كان أم آجلاً وإلا أصبحت عرضة للملاحقة القانونية.
في اتصال مع “نداء الوطن” يقول أمين عام المدارس الكاثوليكية الاب بطرس عازار أنّه “لا يعرف حقيقة حسابات وميزانيات المدارس الخاصة الا العاملون فيها. ونحن لا نسمع الا الاتهامات والنظريات البعيدة كل البعد عن الواقع وهذا الامر لم يعد مقبولاً. يحدّد القانون 515/96 كيفية تحضير موازنة المدارس الخاصة. وعليه، فإن 65% من الايرادات تُخصّص للرواتب والاجور فيما 35% لتطوير المدارس تربوياً. الا ان هذه الـ 35% نادراً ما تُحصّل بل إنّ نسب تحصيلها متفاوتة بين مدرسة وأخرى وهي في غالبية الاحيان تُحتسم من اجل تخفيف أعباء الاقساط على الاهالي المتعثرين. وتجدر الاشارة الى أن موازنات المدارس توضع بالتوافق مع لجان الاهل رغم رفض بعضها التوقيع”.
ويضيف الاب عازار”يمكن لكل من يشكك في أرقام المدارس الخاصة خصوصا الكاثوليكية منها التوجه الى الوزارة المعنية كما ومراجعة القضاء المختص ليتأكد من أن مؤسساتنا لا تراكم أي ارباح منذ عدة أعوام. وهنا أود توضيح قضية أخذت حيزاً من النقاش وهي المتعلقة بسلفة غلاء المعيشة التي دُفعت 300 الف شهرياً لكل استاذ وذلك منذ العام 2012 وذلك يعني ان المدارس الخاصة لم تجنِ أي ارباح من زيادة الاقساط خلال تلك الفترة. ان التهجم على المدارس الخاصة بغوغائية ظلم للتعليم الخاص الذي يؤمن مستقبل نحو 700 الف تلميذ”.
ويوضح الاب عازار أن “المدارس الكاثوليكية تضم حوالي 21 الف استاذ وموظف اداري وعامل في حين يبلغ عدد الموظفين والمعلمين في القطاع الخاص نحو 80 الفاً اذا ما احتسبنا اساتذة المدارس الخاصة المجانية. من هنا فإنّ ضرب القطاع التعليمي الخاص ضرب لـ 80 الف عائلة.
أما عن المبالغ المحصّلة للعام الحالي فهي لا تتخطى 36% للفصل الاول اما في ما خصّ الفصل الثاني فقليلة هي المدارس التي تمكنت من تحصيل جزء منه. ولغاية تاريخنا هذا 80% من الاساتذة قبضوا رواتبهم كاملة فيما الـ 20% تفاوتت سلفة الراتب التي تقاضوها بين 40% و50% على ان تقوم المدارس بدفع الباقي فور تأمينها المبالغ المطلوبة”.
150 مليار ليرة مبالغ غير محصّلة
تبلغ قيمة المبالغ غير المحصلة في المدارس الخاصة الكاثوليكية وحدها منذ عام 2016 ولغاية اليوم حوالي 100مليار ليرة ذلك وتُضاف الى هذا المبلغ، المنح المعطاة الى التلامذة المتعثرين والى العائلات التي لديها اكثر من ولد وهي تقدّر بـ 80 مليار ليرة. ذلك الى جانب المبالغ المستحقة للمدارس الخاصة المجانية منذ العام 2015 والتي امتنعت وزارة التربية من دفعها وتُقدّر بنحو 50 مليار ليرة علماً ان مساهمة الدولة للمدارس الخاصة المجانية مُنظّمة بحسب المرسوم اشتراعي 2359/71.
من جهتها تقول عضو هيئة القضايا في الامانة العامة للمدارس الكاثوليكية هلا مرعب أن”على المدارس أعباء جمّة فبالاضافة الى الرواتب والاجور، تتكبد المدارس 14% من قيمة هذه الاجور منها 8% للصندوق الوطني للضمان الاجتماعي، فيما 6% لصالح صندوق التعويضات الخاص بالاساتذة. جراء الازمة الاقتصادية، لم تعد المدارس الخاصة قادرة على تأمين الرواتب خصوصاً في ظلّ تعثر الاهالي وتقاعس بعضهم عن تسديد الاقساط فيما بعضهم الآخر توقف عن الدفع متذرّعاً بأنّ هناك من لا يسدد ما يتوجّب عليه”.
وتضيف مرعب “في الواقع، بدأت الازمة تتفاقم العام 2017 مع اقرار سلسلة الرتب والرواتب ما أدى الى ارتفاع رواتب المعلّمين بين 30 و70% وتُرجم زيادة في الاقساط. الا أن القسم الاكبر من الاهالي لم يتمكن من تحمّل هذه الزيادة فارتفعت نسبة المتعثرين الى مستويات غير مسبوقة. وهكذا، بدأت المدارس تغطي عجزها إما من خلال الوفر الذي كانت تملكه واما من خلال الجمعيات التي تنبثق المدارس الخاصة منها ومعها تلك الخاصة المجانية من اجل تغطية المصاريف التشغيلية الى جانب رواتب الموظفين خلال الاعوام الماضية. اما في ما خص المدارس الخاصة المجانية، فهي ايضا تابعة لهذه الجمعيات ومنذ العام 2015 تغطي هذه الصناديق تكاليفها. والنتيجة هي ان هذه الجمعيات باتت ترزح تحت وطأة عجز ضخم. لذا في حال تقدّمت الجمعيات بطلبات للاقتراض من المصارف بفائدة 0% لتستطيع دفع رواتب اساتذتها للعام الجاري، ما يتطلّب التزاماً من الاهالي وتكاتفاً مع هذه المؤسسات، وإلا تفاقمت المخاطر. وتجدر الاشارة الى أن عدد المدارس الكبرى لا يتعدى الـ 10 وهي وحدها تعتبر ميسورة نسبياً بما أن روادها من الميسورين ويلتزمون بدفع الاقساط أما واقع بقية المدارس الخاصة فكارثيّ”.
رواتب الاساتذة حق مقدّس
بسبب الاوضاع الراهنة قامت بعض المدارس الخاصة باعطاء الاساتذة والمعلمين نصف راتب او 40% منه وهذا المبلغ يعتبر قانوناً سلفة من الراتب على ان تقوم المدارس بتسديد المبالغ المتبقية فور عودة الامور الى طبيعتها وتمكنها من تأمين الاموال المطلوبة. من هنا، الاعلان عن امتناع تسديد هذه الاقساط مؤشر خطير الى مستقبل المدارس الخاصة ولا بد من حلّ يتناسب مع امكانيات الاهالي من دون توريط المدارس في المزيد من المدفوعات والاستحقاقات من دون أن تتمكن من جمع ايراداتها لتحقيق ذلك خصوصاً وأن إسداء خدمة التعليم عن بُعد ليست بديلاً عن الصفوف الدراسية وستقوم المدارس بالتعويض على التلامذة بأيام إضافية اما خلال الصيف الحالي أو في العام الدراسي المقبل.
البطاقة التربوية عنوان الحلّ
لا يمكن ان يكون هناك حلّ للأزمة التي تضرب القطاع التعليمي الخاص الا من خلال البطاقة التربوية فعلى اساسها يتم تحديد كلفة التعليم في لبنان لتقوم الدولة بواجبها تجاه الاهالي وهكذا يحظون بحرية الاختيار بين تسجيل أولادهم في المدارس الخاصة او الرسمية بدلاً من أن يحصر اختيار المدارس الرسمية من منطلق عدم القدرة على دفع الاقساط. وعليه، على حكومة طوارئ أن تقوم بما هو أهمّ من التدابير الارتكاسية. لذا من المفترض ان تكون هناك خطط استراتيجية لإنقاذ قطاع يمسّ شريحة كبرى من المجتمع.
وبانتظار ذلك، لا تقوم الحكومة بواجباتها، فلا وزير الاقتصاد يحمي القدرة الشرائية للمواطنين، وهو نفسه لم ينهِ ملف المستشفيات وشركات التأمين، ولا وزير الخارجية والمغتربين جاءنا بجديد ولا وزير التربية وجد حلا للأزمة التي تعاني منها المدارس الخاصة والقطاع التعليمي ككل.