نشاطها يتراجع 20%… والوضع الأمني “نعمة” والاقتصادي “نقمة”
يقال إن الشركات الأمنية الخاصة تنتعش في الفوضى وتزدهر في الحروب. في ذلك الكثير من الصحة والشواهد شاخصة من أفغانستان والعراق إلى ليبيا ودول أفريقية أخرى. لكن الحاجة إلى خدماتها لا تنتفي في أزمنة السلم. فحماية المؤسسات والشخصيات ونقل الأموال مهام لا تتطلّب حروباً بالضرورة. ونشاط تلك الشركات في لبنان ليس محكوماً بذلك هو الآخر.
في حديث لـ»نداء الوطن»، يقول وزير الداخلية والبلديات السابق، محمد فهمي، إن قوانين عمل الشركات الأمنية الخاصة تختلف بين دولة وأخرى، ولا يمكن مقاربة أو مقارنة عملها في بعض البلدان مع لبنان. والحال أن نشاط تلك الشركات يتزايد مع غياب دور أجهزة الدولة. ففي بعض البلدان، هي تساعد الحكومات تحت رقابة وتوجيه من قوّاتها المسلّحة وأجهزتها الأمنية. أما في لبنان، فيُحظّر عليها القيام بأي مهام في الأملاك والطرقات العامة، إذ يُحصر ذلك داخل أملاك المؤسسات الخاصة التي تطلب الحماية أو الحراسة دون سلاح، أو لغرض نقل الأموال. ويُذكر هنا على سبيل المثال لا الحصر: المصارف، الأبنية، المنازل، المجمّعات السكنية، المؤسسات الخاصة وغيرها.
فهمي يضيف: «تلتزم الشركات الأمنية الخاصة بوضع عبارة «مؤسسة خاصة» على جميع مكاتبها وممتلكاتها». وبالاستفسار حول التراخيص، يشير إلى أن الطلب يُقدَّم في وزارة الداخلية والبلديات مرفقاً بالمستندات اللازمة، حيث يقوم الوزير بالبت بشأن الموافقة عليه من عدمه خلال شهرين من تاريخ تقديمه. أما العنصر المنتسب إلى الشركة الأمنية، فيجب أن يكون لبنانياً منذ أكثر من عشر سنوات، متمتّعاً بكافة حقوقه المدنية وغير محكوم بجناية أو جنحة شائنة أو ملاحق قضائياً.
نحاول الغوص أكثر في عمل تلك الشركات في لبنان، لا سيما المتخصّصة منها في نقل الأموال، إلا أن التحفّظ كان سمة مشتركة بين غالبية من تواصلنا معهم. السيد إيلي سلامة، صاحب شركة Middle East Security، قرّر أن يكسر حاجز الصمت.
الشروط تطول
على مدير عام الشركة أن يتمتّع بخبرة أمنية داخل لبنان لا تقل عن 15 سنة (قوى أمن داخلي، جيش لبناني، إلخ…)، أو أن يكون حائزاً على شهادات دراسية مختصّة. هذا شرط أساسي لتأسيس شركة أمنية خاصة، إضافة إلى حسن السيرة الذاتية وامتلاك مكتب لا تقل مساحته عن 250 متراً مربّعاً، وثلاث سيارات مسجّلة بإسم الشركة. أما التراخيص، فثلاثة: حراسة وحماية المؤسسات الخاصة والعامة؛ حماية ومواكبة الشخصيات؛ ونقل الأموال. والأخيرة تستلزم، إضافة إلى الشروط السابقة، تأمين الشركة لسيارة واحدة مصفّحة ضد الرصاص على الأقلّ.
بعد الحصول على الرخصة من الوزارة تبدأ المهام الداخلية ويُفتح باب التوظيفات. وفي حال استوفى المتقدّمون الشروط التي ذكرها الوزير فهمي، يجري الانتقال إلى مرحلة التدريب التي ترتكز على اكتساب الحس الأمني، التعاطي مع الأجهزة وآلات كشف المتفجرات وغيرها، كيفية الاتصال بالأجهزة الأمنية وكتابة التقارير. حسن اللياقة في التعاطي مع الآخرين والحفاظ على النظافة الشخصية شرطان مكمّلان بدورهما.
نسأل عن التفاصيل «العملياتية»، فيشير سلامة إلى أن الشركة الأمنية تقوم بإرسال لائحة مفصّلة بأسماء العناصر مرفقة بمستنداتهم الرسمية وأرقام هواتفهم وأمكنة وجودهم ودوام عملهم إلى وزارة الداخلية. فإلى جانب وجود غرفة عمليات خاصة رُبطت بها كافة الشركات عبر خط ساخن، يعود ذلك لسببين: إعلام الوزارة بالأسماء، ومعرفة العناصر المتواجدين في مختلف الأماكن في حال احتياجها لأي مؤازرة أمنية.
لعناصر الحراسة والحماية الحق في حمل السلاح، ويتم الاستحصال على التراخيص من وزارة الدفاع مباشرة، شرط تحديد نوع السلاح ورقمه والموقع الذي سيُستخدم فيه، بحسب سلامة الذي يردف: «نرفض تسليح عناصرنا حرصاً على السلامة العامة، لكن بعض العقود تفرض علينا حمل الأسلحة كتلك المبرمة مع السفارات والريجي».
مع سلاح وبدونه
نطّلع أكثر على مسألة حماية المؤسسات الخاصة والعامة حيث يتم الارتكاز على النظام الداخلي للمؤسسة (منع إدخال الحيوانات، والتدخين ودخول الأطفال…). وتُضاف إلى بنود ذلك النظام السياسة الداخلية للشركة الأمنية كما التدابير والخطط الأمنية المولجة تطبيقها. «حيث لدى المؤسسة الخبرة الإدارية نملك نحن الخبرة الأمنية، من هنا ضرورة الخروج بنظام حماية وسلامة عامة واحد متّفق عليه بين الطرفين على ألا يتعارض مع القانون اللبناني»، على حدّ قول سلامة.
أما عن صلاحيات العناصر الأمنيين، فهم مسؤولون بالدرجة الأولى عن منع أي محاولة خرق أو تعدٍّ على المؤسسة، وصولاً إلى توقيف المعتدين والاتصال بالقوى الأمنية لتسليمهم. ويقف دور عنصر الأمن عند هذا الحد حيث يصبح خاضعاً بعدها لتعليمات الأجهزة الأمنية الرسمية. هذا مع الحرص على عدم استخدام الأسلحة (حتى في حال حملها من قِبَل العناصر) إلا في حالات القوة القاهرة.
ماذا عن حماية المصارف في ظل الاقتحامات الأخيرة؟ يؤكّد سلامة بأن «لا خطر على عناصرنا هناك. فهم يتعاطون بلياقة لاستيعاب أشخاص يطالبون بحقوقهم لا عصابات سرقة، وذلك تحت عنوان حماية المصرف». فجمعية المصارف، كما يضيف، قامت مؤخّراً باستشارة الشركات الأمنية الخاصة، متّخذة قرار التعامل مع المودعين بحضارة ورقي شرط التأكد من كون الشخص المعني مودعاً أولاً ولا يحمل سلاحاً ثانياً. ثمة تجارب لمودعين تنقض هذا الرأي لكن ليس هذا موضوع حديثنا.
بالنسبة للأسعار، فهي تتفاوت مع تفلّت سعر صرف الليرة: «هناك شركات تتقاضى حوالى 11 مليون ليرة شهرياً بدل تأمين حماية لثماني ساعات ليلية ولسبعة أيام في الأسبوع، في حين أن شركات أخرى شرعت تتقاضى بالدولار الأميركي بمعدّل 350 إلى 400 دولار شهرياً. أما عنصر الحماية الذي كان يقبض 900 دولار شهرياً كبدل أتعاب، فقد تراجع مدخوله إلى 300 دولار حالياً»، كما يشرح سلامة.
بحثاً عن الخصوصية
إلى حماية ومواكبة الشخصيات التي تأتي غالباً بناء على طلب مدراء أعمالهم وعلى نفقتهم الخاصة، أكانوا رياضيين، فنانين، رجال أعمال أو سوى ذلك. تقوم الشركة الأمنية الخاصة بتأمين السيارة وسائقها وعنصر الحماية الشخصية. ويُطلب أحياناً تسليح العناصر، ما يستدعي الحصول على تراخيص رسمية، كما يتم اللجوء إلى تأمين فرق حراسة من الإناث لشخصيات نسائية معيّنة.
سلامة يعود بالذاكرة إلى زيارة البابا بنديكتوس السادس عشر إلى لبنان في العام 2012 حيث جرى التنسيق مع لواء الحرس الجمهوري الذي كان مسؤولاً عن حمايته. «لم نكن حينها الحرس الأقرب إلى قداسته كونه كان محاطاً بحرسه الخاص، إنما طُلب منا التواجد في المبنى وموقع القداس وموقف السيارات». أما خلال زيارة الممثّلة أنجيلينا جولي في العام 2003، فكان طلبها الأبرز «حمايتها» من الصحافيين كي لا يتمكنوا من التعرّف إليها.
ماذا عن السياسيين؟ «يمكنهم طلب الحماية من الدولة لكنهم عادة ما يلجؤون إلى الشركات الأمنية الخاصة علماً أن حماية الدولة أفضل بكثير. لكن للأسف الثقة مفقودة ببعض الأجهزة من جهة، ومن جهة أخرى هناك حاجة للشعور ببعض الخصوصية بعيداً عن مراقبة الدولة لكل ما يقوم به هؤلاء خلال تواجدهم في البلد»، والكلام دوماً لسلامة.
العناصر الذي يُكلَّفون بحماية الشخصيات ليسوا هم إجمالاً من يحمون المؤسسات، فتدريباتهم تكون مختلفة وخبرتهم عالية جداً. كما يُصار إلى استبدال العناصر كل 12 ساعة ويُحدَّد عددهم وفقاً لأهمية الشخصية. حماية الفنان، مثلاً، تختلف عن حماية شخصية سياسية معرّضة للخطر. وفي ما يختص ببدل الأتعاب في هذا الإطار، بات العنصر الذي كان يتقاضى 100 إلى 150 دولاراً مقابل 12 ساعة خدمة يحصل اليوم على ما معدّله 50 دولاراً لا أكثر.
هكذا تُنقل الأموال
نقل الأموال وجهة سؤالنا الأخيرة. فهو غالباً ما يتم بين فروع المصارف أو بينها وبين مصرف لبنان، أو حتى بين فروع السوبرماركت والمصارف. وهكذا تتعاقد الشركة الأمنية مع المصرف أو المؤسسة، ويجري نقل الأموال في سيارة مصفّحة عديدها مكوّن من ثلاثة أفراد: السائق الذي لا يغادر السيارة؛ عنصر يتولّى حمل المال؛ وثالث يرافقه. الأموال تُنقل إلى الجهة المستلمة من المصدر بأكياس مغلقة موضوعة داخل حقيبة ملصق عليها قائمة بالتفاصيل (كإسم الفرع والمبلغ والتاريخ…) ومزوّدة بقفل مع شيفرة. ويقوم المستلم بالتوقيع على القائمة وتُردّ النسخة في اليوم التالي إلى المصدر. هذا ويستمر التواصل بين العناصر وغرفة العمليات في الشركة من لحظة الانطلاق حتى التسليم.
هناك بضع عمليات سرقة حصلت خلال نقل أموال مصارف. عنها يقول سلامة: «خلال 22 سنة، حصلت ثلاث عمليات فقط من هذا النوع. اثنتان تمّتا بواسطة عملية سطو والثالثة قام بها العناصر الذين كانوا ينقلون الشحنة وتم القبض عليهم فوراً». سرقة المحتوى ليست بتلك السهولة داخل السيارة بسبب وضع الحقيبة في خزنة محكمة الإقفال. لكن الخطر هو أثناء التوجّه من السيارة إلى المصرف أو العكس. وفي هذه الحال، تتحمل شركة التأمين مسؤولية أي خرق إذ يجري تأمين الشحنة بقيمة 0.6 بالألف على المبلغ المنقول. المصاريف المباشرة وغير المباشرة مضافة إلى كلفة التأمين هي ما يُحدّد سعر الخدمة بواقع كذا بالألف من قيمة الشحنة. مع العلم أن العناصر المولجين نقل الأموال هم الأعلى أجراً كونهم الأكثر تعرّضاً للخطر.
تسلّل الأزمة
«القول بأن عمل الشركات الأمنية الخاصة يزدهر مع تدهور الوضع الأمني في البلد عار عن الصحة، إذ ينشط القطاع مع نمو السياحة والتجارة والاقتصاد»، من وجهة نظر سلامة. فنسبة تراجُع نشاط القطاع بلغت 20% نتيجة الأزمات المتتالية، علماً أن هامش الربح لا يتخطى بالعادة 7%. ثم أن نسبة إقفال الفنادق بلغت 80%، والفندق الذي كان يطلب 50 عنصر حماية أصبح يكتفي بثلاثة. أما المؤسسات والمحال التجارية التي كانت تصنّف خدمة الحماية كخدمة فاخرة قبل الأزمة، أصبحت الآن عاجزة عن تسديد التكاليف. السيّاح القادمون من الخليج وأوروبا وكندا، من ناحيتهم، كما الرياضيين والفنّانين ورجال الأعمال، لم يزوروا لبنان بنفس الكثافة خلال العامين الأخيرين، ما جعل خدمة حماية الأشخاص شبه متوقفة. حتى عمليات نقل الأموال تراجعت حيث شهدت فروع المصارف حالات إغلاق بواقع 60 إلى 70%.
لكن قبل هذه وتلك، يختم سلامة مشيراً إلى تنامي صعوبة توفير عناصر الحماية بعد أن باتت بدلات أتعابهم لا تكفي لتأمين الطعام لأولادهم. فالعنصر الذي يستلم 8 ملايين ليرة شهرياً (أي حوالى 250 ألف ليرة يومياً) بالكاد يتمكن من تغطية أجور التنقّل من وإلى عمله. أليس الكل في البليّة سواء؟…
تأسست أوّل شركة أمنية خاصة في العام 1859 في مدينة شيكاغو الأميركية، على يد السيّد Perry Brink وتحت اسم Brink’s Chicago City Express. بعربة تجرّها الخيول لنقل حقائب المسافرين من محطات سكك الحديد إلى الفنادق أو العكس بدأت الرحلة. وفي العام 1891 تطوّرت خدماتها حيث قامت بأول عملية نقل أموال. لكن ظاهرة الشركات الأمنية راحت تتنامى باطّراد خاصة منذ تسعينيات القرن الماضي على وقع النزاعات التي اندلعت في أكثر من بقعة في العالم.