في تسعينات القرن الماضي، كان يعتقد عالميا أن الخصخصة هي الحل الأفضل لبناء وادارة البنية التحتية وحتى الفوقية من تعليم وصحة وغيرها. معظم الدول لم ينجح في تأمين الخدمات الضرورية للمواطن من كهرباء ومياه واتصالات وغيرها وكانت فكرة نقل المهمة الى القطاع الخاص في محلها. القطاع العام كان وما زال يعاني عالميا من الفساد والهدر وسوء الاداء وبالتالي من المنطقي اشراك القطاع الخاص في المهمات أو نقلها اليه. لذا قام العديد من الدول بنقل ملكية أو ادارة المؤسسات من القطاع العام الى الخاص لرفع انتاجيتها وتحسين الفعالية خدمة للمواطن في السعر والنوعية. كانت بريطانيا رائدة في هذه السياسة وكانت ادارة «تاتشر» المنفذة الأهم عالميا لهذه السياسات الجريئة. لم تأتِ النتائج كما توقعها السياسيون والمتخصصون ويمكن القول أن النجاح كان محدودا وربما تحقق الفشل في عمليات عدة.
قامت دول أخرى بخصخصة مؤسساتها وكانت التجارب غنية خاصة في الأرجنتين والعديد من الدول الأميركية والأسيوية. قام البنك الدولي بارشاد الدول الى الطرق الفضلى لتنفيذ هذه السياسات. للأسف في معظم الدول النامية والناشئة الادارات العامة غير فاعلة وتسيطر عليها المافيات الممتدة من القطاع العام الى الخاص. كان يعتقد أن نقل المهمات الى الخاص يقف في وجه المافيات ويعرقل عملها. الا أن المافيات وسعت نشاطاتها وطورت أعمالها وبالتالي لم يستفد المواطن. لبنان من الدول التي أدخلت القطاع الخاص الى الخدمات العامة وأهمها الخلوي. الا أن اللبناني يعاني اليوم من تردي وتكلفة هذه الخدمات. لكننا لا نقول ان الأفضل كان ابقاء الخلوي في القطاع العام لما نعانيه كمواطنين من سوء المعاملة مع معظم أقسام الادارة اللبنانية.
هنالك أنواع متعددة للخصخصة تبعا للأوضاع السياسية والقانونية والاقتصادية والاجتماعية ولا بد من أن تحترم الخصخصة الشروط العامة للمجتمعات. للأسف كما قلنا فشل العديد من عمليات الخصخصة في تأمين الخدمات في السعر والنوعية لأن معايير الرقابة لم تكن واضحة ولم تطبق بالطرق الفضلى. كما أن خصخصة المؤسسات دون خلق المنافسة فيما بينها ينقل عمليا الاحتكار من القطاع العام الى الخاص وهو حتما أسواء وتدخل ضمنه كل مؤشرات الجشع والاستبداد. هل نقول أن الخصخصة فشلت نهائيا أو يمكن العودة اليها مجددا؟
عموما الخصخصة لم تنجح لكن الفشل لا يعود للفكرة وانما لعدم التنفيذ الدقيق بل الصحيح لها. فكرة الخصخصة ممتازة وتريح القطاع العام من العديد من المهمات التي يتقنها أكثر القطاع الخاص ويمكنه تقديمها بتكلفة أقل وسرعة أكبر. لماذا فكرة الخصخصة منطقية لبناء وادارة البنية التحتية من طرق وكهرباء ومياه ومطارات وغيرها؟ هنالك 3 أسباب على الأقل أولا السياسية حيث تتداخل المصالح السياسية بالاقتصادية لتحقيق الشلل في المهمات وبالتالي تحرير الخدمات من سيطرة القطاع العام يكون مفيدا ومجديا. ثانيا، سؤ تنفيذ الخدمات من قبل القطاع العام يجعل المواطن مكشوفا أمام التحديات الاجتماعية والحياتية. سياسة الدعم اللبنانية هي مضرب مثل للسياسات الخاطئة التي لم تتغير الا بعد وقوع الكارثة. أما ثالثا، فهو غياب التمويل العام المناسب حيث تنفيذ مشاريع البنية التحتية مكلف جدا والقطاع العام عموما عاجز ولا بد من ادخال القطاع الخاص.
في المنطقة العربية، هنالك وقائع تجعل من الخصخصة حلا يجب أن يكون مقبولا اذا احسن التنفيذ. أكثرية دول المنطقة تعاني من ارتفاع دينها العام وبالتالي هي غير قادرة على الاقتراض للاستثمار. لا شك أن الكورونا كانت مؤذية لكل دول المنطقة، فأرهقت الادارة وضربت الصحة وكانت تكلفتها كبيرة على المجتمعات. أكثرية الدول العربية بحاجة الى تمويل استثماراتها لكن الأسواق الداخلية فقيرة وغير ناضجة وبالتالي غير قادرة على الاقراض. لذا لا بد من الاستعانة بالخارج اذا كان ذلك ممكنا. أكثرية الدول العربية بحاجة اليوم الى تطوير وتحسين اداراتها المالية في الانفاق وادارة الديون وتحصيل الايرادات وغيرها. هي بحاجة الى تمويل ايضافي لتلبية حاجات المواطنين الاجتماعية والاستثمارية.
الاقتصادي الكبير «جوزيف ستيغليتز» غير متحمس للخصخصة خاصة للمؤسسات الكبيرة اذا لا يرى فارقاً كبيراً في ادارتها بين القطاع العام او الخاص. يقول أن ادارة المؤسسات الكبيرة تبقى نفسها لأن الملكية لا تغير الكثير، فالمهم هي الادارة التي تمتع عادة بحرية التنفيذ أيا كانت الملكية وبالتالي فوائد الخصخصة أقل بكثير مما يعتقد. الخصخصة بحد ذاتها لا تجعل المؤسسة منتجة أو فاعلة أكثر، اذ المهم هي كفاءة الادارة. على العكس، قال «رونالد كوس» ان الملكية هي الأساس وبالتالي حقوق الملكية تؤثر مباشرة على الفعالية. الملكية في رأيه هي الدافع للانتاج والعمل والتفوق.
هنالك اليوم أفكار جديدة بشأن الخصخصة أهمها الشراكة بين القطاعين العام والخاص والتي تطبق في دول عدة ويحاول لبنان ذلك دون نجاح بالرغم من اصدار القوانين المناسبة. في هذه الطريقة تمول الشركة المشروع فتنشئه وتديره وتقوم بعمليات الصيانة. يكون العقد حكما طويل الأمد لجذب المستثمرين الذي يبغون الربح. ينقل المشروع الى القطاع العام عندما ينتهي العقد. يكون هنالك أيضا شراكة تمويلية من قبل القطاع العام ويمكن للمستثمر أن يحصل الايرادات مقابل استهلاك خدمات الكهرباء أو المياه أو الاتصالات أو غيرها. بالنسبة للقطاع العام لا يدخل تمويل المشروع في الدين العام ولا يضاف الى العجز المالي، وهذان عاملان مهمان في هذه الظروف والأوقات. فائدة الشراكة الأساسية انها لا تخضع للرقابة التشريعية وحتى المحاسبية العامة وبالتالي تحرر أموال القطاع العام للاستعمال في حاجات أخرى.
ما هي العوامل التي تدفع الى الخصخصة بطريقة أو أخرى؟
أولا: العوامل الاقتصادية التي تتفوق على الأخرى عندما يكون الهدف زيادة فعالية المؤسسة التي يراد تخصيصها. ترتفع الفعالية كما الانتاجية مع الخصخصة بسبب توزيع أفضل للمخاطر كما بسبب طبيعة العقد الذي يحفذ الادارة الخاصة على القيام بواجبها بشكل أفضل. تتحسن أيضا النتائج بفضل طرق التمويل التي تكون مركبة بشكل أفضل وتكلفة أقل.
ثانيا: من المنتظر أن تكون الشراكة ناجحة اذا ركزت الادارة جهودها على أهداف محددة. لذا تكون التكلفة التشغيلية أقل كما الهدر والفساد. عندها يتم التنفيذ أيضا بشكل فاعل أي تحترم المواعيد بشكل أفضل.
ثالثا: تبقى الأهداف السياسية مهمة بحيث ترغب الحكومات في تحقيق انجازات للمواطن هي حاليا عاجزة عنها. نقل المهمات الى القطاع الخاص يسمح بالتنفيذ بشكل أسرع وأفعل وبنوعية أفضل.