IMLebanon

من مشكلة نفايات الى فوضى شاملة  

اللبنانيون الذين تابعوا وما زالوا أحداث وسط بيروت تنازعتهم مشاعر متناقضة لدى مشاهدتهم تطور تلك الأحداث في ساحة رياض الصلح المجاورة للقصر الحكومي. فقد كان كل شيء حسناً أول الأمر عندما بدأت المجموعات الأولى تتحلّق في الساحة. فالمطلب الرئيسي الداعي لحل مشكلة النفايات التي تقضّ مضاجع اللبنانيين والمثير للسخط والغضب، ما زال يحظى بتأييد وعطف جماهيري واسع، لا سيما أنه قد انقضت أسابيع عدة من دون أن تصل محاولات الحكومة للاهتداء الى حل نهائي للمشكلة. فقصر النظر وانعدام التخطيط وفقدان القدرة على الحد الأدنى من الرؤيا المستقبلية في معالجة هذه المشكلة، شأنها شأن العديد من المشكلات المماثلة، كانت من دون ريب هي الدافع الذي يكمن وراء النزول الى الشارع تعبيراً عن التنديد بمواقف المسؤولين. وكان ذلك بعد ظهر الأحد في 23 آب الجاري، أي في النهار المناسب لجمع أكبر عدد ممكن من الشباب للتحرك.

كان كل شيء مقبولاً أول الأمر ولا يتعدى حدود التعبير السلمي عن الغصب، وذلك بصرف النظر عن بعض الشعارات القاسية والنابية التي ما لبثت أن بدأت تظهر على اللافتات أو على ألسنة بعض المحتشدين. وقد لعبت بعض وسائل الإعلام المتلفزة دوراً فعالاً في تحريض المحتشدين، حيث راح بعضهم يحاول تجاوز الأسلاك الشائكة التي تفصلهم عن القصر الحكومي، بل الى إلقاء الحجارة والمقذوفات المحرقة على رجال الأمن ولم تفلح خراطيم المياه بردع هذه المحاولات ولا القنابل المسيلة للدموع، حيث كان خطأ مؤسفاً أن يلجأ بعض رجال الأمن لعدم الاكتفاء بالرصاص المطاط الى حدّ استخدام القوة المفرطة. فإذا بعناصر جديدة مجهولة الهوية تحضر الى الساحة التي عمتها الفوضى والذعر وتبدأ بإطلاق القذائف المحرقة على رجال الأمن، ثم تستدير لتقتلع الإشارات الكهربائية وتبدأ بتحطيم واجهات المحال وإحراق السيارات وتحطيمها وكأن ثمة خطة مبيّتة تهدف لحرف التظاهرة السلمية وأخذها باتجاه آخر المقصود منه إثارة الفوضى وتعميم الخراب. هذا، ولم يجدِ نفعاً المؤتمر الصحافي العاجل الذي عقده، رئيس الحكومة في الحال ولا تعهده بمحاسبة مطلقي النار ولا دعوته لعقد اجتماع استثنائي لمجلس الوزراء.

الأخطر في كل ما جرى كان الوتيرة المتصاعدة للشعارات السياسية التي بدأت بالظهور. فمن اتهام الطبقة السياسية الحاكمة بالرشوة والفساد، الى شعار «إسقاط الحكومة» الى شعار «إسقاط النظام»!.

هذا ما عدا وجوب إسقاط البرلمان والدعوة الى انتخابات جديدة الى آخر السبحة من الشعارات.. هذا وما زالت مشكلة النفايات، بعد إلغاء المناقصات المعروضة تتطلب حلاً فعلام كل هذا الزعاق ومحاولات التخريب الآثم المدان؟

لا بد لنا إزاء هذه التطورات من إبداء الملاحظات الضرورية والمناسبة: 

– لم نعلم، وما زال مجهولاً حتى اللحظة من هي الجهة أو الجهات التي دعت الى التظاهرة أو الاعتصام. جلّ ما علمناه هو أن ثمة جهة تدعى «طلعت ريحتكم» كانت وراء التجمع في صورته الأولى. وهي تطرح بقوة مشكلة الفساد.

– فات هذا التجمع، لو كان جدياً ومسؤولاً بحق، أن يسهر على سلمية التحرك وعلى حسن تنظيمه، وأخذ التدابير اللازمة للحؤول دون حرفه ودفعه نحو مناحٍ أخرى. فقد تبين وبالملموس أنه سهل الاختراق والانقياد، والدليل على ذلك أن العناصر البشرية السلمية النوايا سرعان ما أخلت الساحة بعد انفلات الوضع، ليحتلها مثيرو الشغب فيصبح المطلوب ليس حل مشكلة النفايات بل افتعال معركة صدام دموي مع رجال الأمن كمقدمة لنشوب أزمة عامة تجتاح البلاد لتأخذها نحو المجهول.

– التداعيات والارتدادات المثيرة للقلق البالغ التي ولّدها هذا التحرك المرتجل والذي اتخذ طابع العنف والشغب عندما أطلق في غير منطقة تحركات مضادة تدعو الى حمل السلاح والحضور الى الساحة نفسها للذود عن القصر الحكومي وموقع الرئاسة الثالثة.

– ما زالت عالقة في ذاكرة اللبنانيين صور اعتصام عام 2006 و2007 في ساحة رياض الصلح نفسها والذي أفضى الى حوادث 7 أيار عام 2008 عندما اجتاح مقاتلو حزب الله بيروت الغربية. وكان الهدف من تلك التحركات جميعاً إسقاط الحكومة بالقوة وفرض النفوذ العسكري لحزب الله، إلا أن لقاء الدوحة (قطر) بين الأطراف اللبنانية أدى الى تسوية الاتفاق على انتخاب الرئيس ميشال سليمان وإجراء انتخابات جديدة. أما الآن فإن الأزمة أعمق بما لا يُقاس مع اندلاع الثورة السورية وتدخل إيران الواسع في الحرب الدائرة هناك وانغماس حزب الله الكلي فيها. بل أسوأ من ذلك بكثير عندما نجد البلاد بلا رئيس. وبرلمان معطل مشلول عاجز عن انتخاب خلف له، بل اتسع منطق التعطيل ليطاول الحكومة نفسها وسط هرطقات دستورية لا تهدف في حقيقتها سوى لمسألتين: فرض رئيس خاضع لمشيئة حزب الله ودفع البلاد الى المزيد من الأزمات والتردي على مختلف الصعد والمؤسسات، فالشلل يضرب لبنان من أقصاه الى أقصاه. فحذار حذار أن يضطر، رئيس الحكومة للتنحي والاعتكاف لأن ثمة من يسعى لتحقيق هذا المأرب التدميري ومن داخلها بالذات تارة عن طريق إثارة صلاحيات رئيس الحكومة وآلية وضع جدول الأعمال وطوراً بالمطالبة بالمشاركة المزعومة وفي آن معاً ممارسة الابتزاز السياسي عن طريق فرض تعيينات ملتبسة في هذه المرحلة بالذات وإلا فالنزول الى الشارع تحت ستار الحفاظ على حقوق المسيحيين، بل في بروز بدعة المناداة بضرورة عقد مؤتمر تأسيسي الذي إن انعقد لن يؤدي سوى لتقليص دور المسيحيين أنفسهم وحضورهم وتمثيلهم في المؤسسات. 

– إن المثالثة التي يسعى وراءها حزب الله والتي تروق للجنرال عون ما دامت تؤمن له موقع الرئاسة الأولى تتطلب وفقاً للمخطط المرسوم أن تتوالى الأزمات وينشر التعطيل وتتعمّم وتسيطر الفوضى وأن يسقط لبنان في أزمة وطنية عامة على غرار فرنسا عام 1958 عندما اضطر الوضع الفرنسي المأزوم لاستدعاء الجنرال «ديغول» كمنقذ للبلاد. إلا أن تركيبة الوضع اللبنانية ليست بالإطلاق كفرنسا آنذاك.

إن المساس باتفاق الطائف هو مغامرة في غاية الخطورة، لأنه يظل مقبولاً التحرك من أجل مشكلة نفايات قابلة للحل من هنا، ومشكلة كهرباء مستعصية من هناك، وغيرهما من المشكلات، أما إدخال البلاد في متاهات صلاحيات رئيس الحكومة وتكريس رقيب تابع لحزب الله في كافة الوزارات فيذكرنا بعهد الانتداب في الزمن الغابر. إن ما بدأنا نواجهه الآن لأخطر من ذلك بكثير عندما لم يعد حزب الله يكفه حمله السلاح غير الشرعي وانخراطه في الحرب السورية وسيطرته على المرافق الرئيسية للبنان، ولا تكريس الشغور في موقع الرئاسة الأولى وتعطيله دور البرلمان ومحاولته فرض حليفه رئيساً بالقوة فوق رقاب اللبنانيين، بل تجده في اللحظة التاريخية الراهنة يقود لبنان الى الفراغ الشامل في السلطات والإجهاز على الدولة وتعميم الفوضى والخلاء.

إنه يتقن ببراعة متناهية التوفيق والجمع بين أقصى التناقضات للوصول الى مراميه كأن يتحالف وهو المؤمن بولاية الفقيه مع فريق مسيحي متشدد، وفي آن معاً يشارك في حكومة وفاق وطني لكنه يعمل على تعطيل انتخاب رئيس جديد للبنان وعلى شل البرلمان، وبالمقابل يدعي الذود عن مسيحيي البلاد لكنه ليس لديه موظف مسيحي واحد في المؤسسات التي يملكها ومن جهة أخرى يفرض هنداماً وسلوكاً صارمين في المناطق التي في قبضته وفي آن معاً يدير حواراً مستداماً مع تيار المستقبل الليبرالي لكنه يوعز في آن معاً لتنظيمات حليفة أخرى بمهمة إثارة الشغب في ساحة رياض الصلح ونشر الفوضى والدعوة لإسقاط النظام لاستبداله بمشروع المثالثة الى آخر السبحة… إنه لاعب ماهر على رقعة الشطرنج.. ولكن!