IMLebanon

الحكم بالامتناع أو سلاح التوقيع

يعتبر النظام السياسي اللبناني نظاما برلمانيا، لكن الصلاحيات التي يملكها رئيس الجمهورية جعلت منه اقرب الى النظام الرئاسي بسبب اتساع هذه الصلاحيات وشمولها اهم مرافق العمل السياسي وآلة الحكم: فهو كان يملك وحده تعيين رئيس الحكومة والوزراء واقالتهم حتى ان رئيس الحكومة كان يسمى بـ«الوزير الأول». ولم يكن يحد صلاحيات رئيس الجمهورية اكثر من حرصه على عدم الإخلال بالتوازن الطائفي خاصة على مستوى المراكز الأولى مع حفظ حقه ببعض المراكز الأساسية مثل قيادة الجيش والأمن العام ورئاسة مجلس القضاء الأعلى وحاكمية مصرف لبنان الخ…
لكن هذه الصيغة بدأت بالإهتزاز على مراحل متفاوتة في الزمان والمكان ما أدى الى احداث احتقان في النفوس وتعميقا للإنقسام الداخلي الذي كان يزداد حدة تبعا لأهمية المواضيع السياسية. كل هذه التراكمات ساهمت بقيام حرب اهلية سميت بحرب السنتين ومعها انقسمت البلاد انقساما طائفيا بغيضا فكان لا بد من تنظيم مؤتمر ينهي هذه الحالة، فكان مؤتمر الطائف الذي انتهى بإنهاء الحرب الأهلية وفي الوقت عينه صياغة نظام حكم جديد من خلال وثيقة تاريخية هي وثيقة الطائف التي انتجت دستورا جديدا هو دستور الطائف.
يجب ان لا نفاجأ اذا قلنا ان دستور الطائف الذي ارتضيناه جاء ليغير النظام السياسي اللبناني لأنه نقل هذا النظام من الأحادية الى الشراكة بمعنى ان آلة الحكم الجديدة صارت في مجلس الوزراء الذي هو مؤلف من رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة والوزراء الذين يمثلون مختلف الطوائف الأساسية في البلاد.
وهكذا لم يعد الحكم في لبنان رئاسيا اي يمارسه رئيس الجمهورية وحده وانما صار عملية مشاركة من خلال السلطة الإجرائية التي تدير وحدها السلطة السياسية في البلاد مع حفظ حق رئيس الجمهورية ببعض الإمتيازات الخاصة التي تتناسب مع مركزه لكن من دون الوصول الى تحديد اطر السياسة التي بقيت هندستها من صلاحية مجلس الوزراء.
لقد اريد لهذه الصيغة الجديدة ان تكون وسيلة ناجحة لإدارة عملية الحكم في مجتمع مثل المجتمع اللبناني القائم على تعدد الولاءات الطائفية التي ليست كلها متجانسة. لكن النتائج لم تكن بمستوى الآمال. ذلك ان آلة الحكم قد اصيبت في الكثير من المرات بعطل منعها من اتخاذ القرارات المهمة التي هي من اختصاص اي دولة ومن شؤونها اليومية. ولكن وبدلا من ذلك ولدت مدرسة جديدة في السياسة سميت «سلاح التوقيع» اي ان الفريق الذي لا يكون موافقا على قرار ما ولا يستطيع تغييره يمتنع عن التوقيع عليه فيصبح القرار حرفا ميتا.
لقد ادى سلاح التوقيع الذي لطالما اعتمده الفرقاء الى اختراع حل هو نظرية «الثلث الضامن أو الثلث المعطل» وقد منح هذا الحق لرئيس الجمهورية وذلك لتحقيق نوع من التوازن الهش ما بين سلطاته وسلطات رئيس الحكومة وهنا نشأت معركة جديدة كانت تسبق وما تزال عملية تشكيل الحكومة. لأنها من الأعمال الصعبة دائما لأن «الثلث الضامن» يسمح لرئيس الجمهورية او لمن يملك هذا الثلث ان يطلب من الوزراء الإستقالة فإذا حصلت تستقيل الحكومة برمتها.
كل هذه الصيغ لم تعد تسمح لرئيس الجمهورية ان يلتزم عند انتخابه بأي تعهد لا يلتزم به معه مجلس الوزراء وخاصة رئيس الحكومة وإلا كان التزامه او تعهده غير ذي فائدة لأنه لن يتمكن من تنفيذ تعهداته عندما يصبح رئيسا. فقد واجه لبنان حالة من هذا النوع مع الرئيس السابق ميشال عون عندما انتشرت في عهده العبارة الشهيرة «ما خلونا» التي اثارت الكثير من الإنتقاد. لذلك لا نرى مفيدا اغراق رئيس الجمهورية العتيد بشروط مسبقة وبمواصفات تتجاوز شخصه لأنه لن يتمكن من تنفيذ تعهداته اذا لم يوافقه عليها شريكه في الحكم.
لكن هذا لا يستدعي استبدالا للطائف وانما البحث عن صيغ جديدة تجعل من الحكم عملية ايجابية منتجة وليس عملية سلبية كما هو الحال حاضرا.

* مدعي عام التمييز سابقاً