أخطار كثيرة تبرز أمام ناظري الرئيس سعد الحريري حينما يدقق في الحسابات السياسية الناجمة من مبادرته، وهي أخطار جعلته هو نفسه يعترف بأنها تتّصف بالمخاطرة الكبرى.
تعبير المخاطرة ليس من عنديات الحريري، بل اقتبسه من مطالعات الذين نازعوه رأيه بخصوصها من داخل كتلته، وتقصّدوا استخدامه ليوحوا بدلالات أبعد من وصف المغامرة الذي أطلقه الحريري على مبادرته.
فالمخاطرة تؤشر لمشكلة ذات وزن استراتيجي ومصيري بالنسبة للحريري وللطائفة السنّية في لبنان وعلاقاتها بحلفائها الإقليميين، ويقع تحديدها في «أنّ هذه المبادرة تُعتبر أوّل خطوة سياسية بهذا الحجم، يتّخذها الحريري ولا تحظى بغطاء سياسي سعودي واضح»، بل في الغالب حسبما وصل لمسامع متنازعيه رأيه في كتلته أنها، «تحظى بانزعاج سعودي منها»، رغم أنّ منسوبه لم يصل الى مرتبة وضع فيتو عليها.
وتقول معلومات إنّ موقف أقطاب كتلة «المستقبل» بعدم التصويت لعون، وراءه بالأساس رغبتهم «النأي بأنفسهم» عن مشاركة الحريري في «مخاطرة إزعاج السعودية»، وتفضيلهم «الانتظار في ثلاجة تجميد حراكها في لبنان»، بدل الاجتهاد نيابة عنها وحتى ولو أوحت الرياض بأنها تجيز ذلك. ويُعتبر موقف الرئيس فؤاد السنيورة أبرز ممثلي هذا الاعتبار، ولاسيما أنه يناسب حساباته الشخصية الخاصة بطموح نيله رئاسة حكومة الوقت الإقليمي الضائع.
الرياض – وحسب آخر رصد لرد فعلها على مبادرة الحريري- لا تزال عند موقفها بخصوص أنها لم تتدخل في هذا الأمر، فهي لم تشجّع ولم ترفض، وتبدي أنها ستكون سعيدة لو أفضى الى حلّ للازمة اللبنانية، رغم أنّ «الانطباع العام» في الرياض يعتقد أنه كان من الأفضل للحريري الانتظار بعض الوقت قبل إقدامه على خطوة سياسية بشأن الوضع اللبناني.
هل تسرّع الحريري؟
الاجابة عن هذا السؤال شكّلت محور نقاشات الحريري مع كتلته لإقناع مخالفيه الرأي في شان مبادرته. وعرض أمامه الذين حضّوه على عدم التسرع، بالاضافة الى معطى أنّ مبادرته تتضمّن «المخاطرة» الاستراتيجية بإزعاج السعودية، معطى أنها تحتوي على «مغامرة»، إذ مَن يضمن له أنّ عون سيفي بتعهّداته له، وأنّ «حزب الله» سيؤيّد هذه التعهّدات، خصوصاً أنه لا يزال داخل «المستقبل» يسود سؤال حائر عما إذا كانت خلفيات موقف الرئيس نبيه بري تخفي «تعليمة خارجية»، أم إنه يمارس لعبة توزيع أدوار متفقاً عليها مسبقا بينه وبين «حزب الله».
يقرّ الحريري مبدئياً بكلّ ملاحظات منازعيه الرأي داخل كتلته، ولكنه يختلف معهم في طريقة النظر اليها كمعطيات لاتخاذ القرار. وهو لا يدّعي أنه يملك إجابة شافية عن هواجسهم وأسئلتهم، ولكنه يرد عليها- بحسب مصادر متابعة- بسؤالين معاكسين:
الأول: مَن يملك ضمانة بأنّ عون لن يكون رئيساً للجمهورية بعد ستة اشهر، ومن دون الحاجة لنا؟ ويسوّق هنا سيناريو شديد الاحتمال، كإمكانية أنه مع وصول البلد لموعد الاستحقاق النيابي الانتخابي، فإنّ أحداً لن يكون بإمكانه تأجيلها، وستعقد في ظلّ توقع تشكيل محدلة انتخابية مسيحية قواتية عونية متحالفة في كلّ المناطق، ستحصد ما بين 42 الى 44 مقعداً، وستوفر هذه النتيجة إمكانية حاسمة لجعل تفاهم معراب يفرض مرشحه لرئاسة الجمهورية على كلّ القوى السياسية اللبنانية الأخرى، ومن موقع قوة.
وضمن هذا المنظار تبدو مبادرة الحريري أنها بكّرت فقط موعد انتخاب عون رئيساً وليست المسؤولة عن فرضه، وجعلت توقيته السياسي يحدث في ظلّ توازن قوى في البلد لا يزال يوجد فيه لـ«المستقبل» حضورٌ ذو وزن.
السؤال الثاني الذي يسوّق لمبادرة الحريري، هو مَن يملك ضمانة بأنّ «حزب الله» لن يذهب بلبنان الى مؤتمر تاسيسي فيما لو تعاظم شللُ الدولة وانهار الاقتصاد وتعاظم انتصار محوره في سوريا بدءاً من حلب وصولاً الى الباب كما هو متوقع، وذلك خلال فترة انشغال واشنطن بإجراء الانتخابات والترتيبات التي تليها لبدء عهد الرئيس الجديد، وهي فترة شلل أميركي تستمرّ أيضاً ستة اشهر؟
فكرة «الصمود» ستة أشهر أخرى، كانت مطروحة من دعاة القول بـ»عدم الاستعجال»، وبرأي هؤلاء فإنّ هذه الفترة الزمنية التي تفصل المنطقة عن وصول هيلاري كلينتون شبه المحتم الى البيت الابيض، وبدء عهدها الفعلي، ليست بالوقت الطويل الذي من شأنه إضافة تردٍّ جوهري إضافي على تردّي الوضع اللبناني، وبالتالي يمكن تمريره عبر صيغ كتشريعات الضرورة وغيرها.
والمهم أنّ «خيار الانتظار» أو «عدم الاستعجال» يؤمّن فرصة لانتظار الكيفية التي ستضع فيها كلينتون مبدأها بخصوص «مسايرة إيران وضرب «داعش» والرئيس بشار الأسد معاً في سوريا»، موضع التنفيذ، وكيف ستكون انعكاساته على لبنان.
يبقى أنّ الحريري ضمّن خطابه، بالاضافة الى تعبير «المخاطرة» المقتبسة من مطالعات ناصحيه ومنازعي مبادرته والمزايدين عليها، عبارتي «المغامرة» و«تسوية سياسية بامتياز»، وهما مصطلحان تمّ انتقاؤهما بعناية من معدّي خطابه لإبرازهما كفذلكة لتوصيف ماهيّة مبادرته. مصطلح «مغامرة» أتى عرضه كتوصيف لرأي يرى أنّ الحريري نفّذ عملية قفز بالمظلة فوق أرض خصومه، رغم أنه لا يملك ضمانات الأمان الشخصية للكيفية التي ستعامل بها خصومه. فقط يملك تبريراً وحيداً لخطوته وهي أنها أفضل الشرور للإنقاذ.
أما باستخدامه مصطلح «تسوية سياسية بامتياز»، فهو يريد إظهار أنها ليست مغامرة من ثمن مهم، بل بمقابلها تعهّد عون بأنه سيمنع خلال عهده أيّ توجّه من أيّ طرف سياسي لفرض تغيير نظام الطائف بشكل منفرد، ومن دون حصول إجماع وطني.
يعتبر مؤيّدو الحريري أنّ مبادرته لها مفعول عقد مؤتمر تأسيسي معاكس لما يطالب به «حزب الله»، ويمتاز بأنّ مادته الوحيدة الحفاظ على «الطائف» وعدم المَسّ به، وليس تعديله أو نسفه. وبنظرهم اشترت المبادرة حصانة داخلية لـ«الطائف» لست سنوات. وأهمية تعهّد عون هذا من وجهة نظر الحريري الذي تقصّد الإفصاح عنه، أنه يؤمّن حصانة داخلية لـ«الطائف» خلال فترة تتّسم بأنها ستشهد تحوّلات إقليمية صاخبة مثقلة باحتمالات حدوث تغيّرات في حدود دول جوار لبنان، وأنظمتها.
الملاحظة الأخيرة التي لفتت نظر ديبلوماسيين في بيروت الذين يبحثون بعناية عن خلفيات خارجية لخطوة الحريري، هي أنّ توقيت إعلانه مبادرته عند الساعة الرابعة والنصف من مساء الخميس، جاءت لتتبع توقيت إعلان هدنتي حلب واليمن، ولتواكب سياقاً مستجدّاً لمصر للعب دور إطفائي إنساني سياسي في الهدنة الأولى، ما طرح أسئلة بمفعول رجعي عمّا إذا كانت لزيارة وزير الخارجية المصري للبنان قبل شهرين تتمات خفيّة على مستوى ملف الرئاسة اللبنانية، بمثلما أنه ظهر أمس الأول أنّ زيارة علي المملوك الى القاهرة استتبعها كشف مصر عن وجود دور تنفيذي لها في سياق هدنة روسيا الراهنة التي أعلنها الرئيس فلاديمير بوتين من جانب واحد في حلب.
هل الحريري قرّر من جانب واحد حجز دور لمبادرته في سياق الهدنات الهشة في المنطقة؟ أسئلة لا يدّعي أيّ طرف داخلي أنه يملك أجوبة موثقة بالمعلومات القاطعة عنها!