IMLebanon

وقائع من معلقات سياسية رافقت الرؤساء عبد الحميد ورشيد وعمر كرامي

 

وقائع من معلقات سياسية رافقت الرؤساء عبد الحميد ورشيد وعمر كرامي

حوار الاضداد على مصير جمهورية الشغور والفراغ

والتوافق جدّي على رئيس… او على صورة لبنان

في اليوم الاول من العام الجديد، اعلنت العائلة الكرامية، غياب الرئيس عمر كرامي عن ٨٠ عاماً، امضاها في خدمة لبنان، ونقل في اليوم التالي الى مدينته طرابلس، من مستشفى الجامعة الأميركية في بيروت، وجرى له وداع كبير في العاصمة الثانية، يليق به وبأسرته وبعائلته.

في تشرين الثاني من العام ١٩٥٠، ودعت طرابلس والده الزعيم الاستقلالي، ومفتي العاصمة الشمالية الرئيس عبد الحميد كرامي في مأتم كبير تقدمه الرئيس الاستقلالي الشيخ بشارة خليل الخوري ورئيس الوزراء رياض الصلح، وكان الثلاثة قد سُجنوا معاً ابّان معركة الاستقلال في قلعة راشيا، جنباً الى جنب مع قادة الاستقلال.

في العام ١٩٥١ ترشح الشاب رشيد كرامي لخلافة والده عبد الحميد، على الزعامة التي غاب عن ميدانها، على رأس قائمة ضمت وجوها سياسية كان من ابرزهم قبولي الذوق، الدكتور هاشم الحسيني وفؤاد البرط.

كان عمر رشيد كرامي خمسة وثلاثين عاماً، عندما استدعاه الرئيس كميل شمعون وكلفه تشكيل الحكومة الجديدة، وكان الطرابلسي الثالث الذي تسند اليه هذه المهمة بعد والده الرئيس عبد الحميد والوجه الطرابلسي العريق سعدي المنلا.

عندما اتفق جمال عبد الناصر مع الموفد الأميركي الذي أوفده الرئيس الأميركي الجنرال دوايت ايزنهاور الى لبنان السيد روبرت مورفي، على ترشيح اللواء فؤاد شهاب اختار قائد الجيش يومئذ، التعاون مع رشيد كرامي، حيث كانت الثورة مشتعلة في لبنان، بين اليمين السياسي واليسار اللبناني. كانت الغلطة التي وقع فيها العهد الجديد، تأليف حكومة تضم الاستاذ يوسف السودا من بكفيا، بلدة الزعيم اليميني الشيخ بيار الجميل، الا ان ثورة بيضاء اندلعت في كسروان والمتن ضد الحكومة الجديدة.

ويبدو ان الرئيس فؤاد شهاب كان يحدب سراً على تصحيح الخطأ الوزاري، فوقعت في البلاد أزمة سياسية حادة، نجمت عنها استقالة الحكومة العتيدة.

أدرك العميد ريمون اده حراجة الموقف ودقة المرحلة، وسارع الى إيفاد رسول منه الى رئيس الجمهورية، يقترح عليه تأليف حكومة رباعية تضم الرئيس رشيد كرامي والرئيس حسين العويني عن المسلمين والشيخ بيار الجميل رئيس حزب الكتائب اللبنانية والعميد ريمون اده عميد حزب الكتلة الوطنية.

تجاوب الأمير اللواء فؤاد شهاب مع رغبات العميد على رغم النفور السائد بينه وبين العسكر، وبين الجناحين اليميني واليساري، أو بين المسلمين والمسيحيين بعد حوادث العام ١٩٥٨، التي غذاها العداء السياسي بين مؤيدي المارد العربي الذي كان يرئس الجمهورية العربية المتحدة التي ضمت مصر وسوريا، وكانت الوحدة العربية الأولى في التاريخ.

قاد الرئيس رشيد كرامي الحكومة، الى ان خلفه الرئيس صائب سلام صاحب شعار لبنان واحد لا لبنانان.

وشغل كرامي المنصب نفسه في عهد الرئيس شارل حلو خصوصاً ابّان الصراع بين ياسر عرفات والمقاومة والمنظمات، واشتهرت تلك المرحلة بأزمة سياسية حادة، اذ بقي الأفندي الطرابلسي في الاعتكاف مدة سبعة أشهر تقريباً، الى ان خلفه الرئيس الدكتور عبدالله اليافي، الذي استساغه واستاغ التعاون معه، عندما كان وزيراً للتربية الوطنية.

الا ان الرئيس رشيد كرامي عاد الى رئاسة الحكومة في عهد الرئيس سليمان فرنجيه، عند وقوع الخلاف حول دور المقاومة، وتكليف زعماء الحركة الوطنية بزعامة كمال جنبلاط والحركات الإسلامية في دار الفتوى.

ونجم عن اللقاءات التي عقدت في ميدان سباق الخيل، بعد سقوط الوثيقة الدستورية، اتفاق بين الرئيسين كميل شمعون والرئيس رشيد كرامي الذي كان يرئس الحكومة، لكن الزعيم الطرابلسي اغتيل في الطائرة التي كانت تقله من طرابلس الى بيروت.

في خلال ولاية الرئيس الياس الهراوي، بعد إتفاق الطائف ضاق هذا الأخير، بموقف رئيس الحكومة الدكتور سليم الحص، الذي راح يطالب بمكان مستقل لمجلس الوزراء، وذهب الى دمشق، وعرض على الرئيس حافظ الاسد، رغبته في الإستقالة لانه لم يعد يتحمل مواقف الحص.

ويُروى ان الرئيس الاسد، ابلغه ان ليس بالإمكان انتخاب رئيس جمهورية، كلما اختلف مع رئيس الوزراء، وسأله عمن يختار من الزعماء المسلمين لمفاتحته بالموضوع.

ورد الرئيس الهراوي بأن ليس عنده عقدة احد، وعندما طرح الرئيس الاسد، اسم وزير التربية في حكومة الرئيس الحص السيد عمر كرامي، رحب رئيس الجمهورية بالفكرة.

وعلى الفور اتصل الرئيس الاسد بنائبه السيد عبد الحميد خدام، وطلب اليه الإتصال بعمر كرامي او دعوته الى دمشق، لسَبْر أغوار تعاونه مع ابو جورج.

وبسرعة تهاوت ترويكا الحكم المؤلفة من رئيس الجمهورية ورئيس المجلس النيابي حسين الحسيني ورئيس الحكومة سليم الحص، وتم حل الاشكال واجراء استشارات نيابية ملزمة، حملت اسم الرئيس عمر كرامي الى نادي رؤساء الحكومات في لبنان.

لم يدم العرس الرئاسي طويلاً، بين الرئيس الياس الهراوي، والرئيس عمر كرامي، وارتفع سعر الدولار الأميركي في أسواق النقد. وقدم الرئيس عمر كرامي استقالته، وبرز عصر الرئيس رفيق الحريري.

ويقول المراقبون، ان الأفندي الطرابلسي الجديد، كان رجل مواقف، وصاحب نظرية سياسية واضحة، كما كان مثل والده عبد الحميد، وعلى غرار شقيقه رشيد، رجل حوار ورائداً للعيش المشترك بين اللبنانيين.

وفي عهد الرئيس اميل لحود برز الرئيس كرامي زعيماً لبنانياً وزعيماً شمالياً بصورة خاصة، ولا سيما بعدما اصبحت فيحاء الشمال دوحة سياسية تضم اقضية طرابلس، الكورة والبترون وزغرتا، مقابل دائرة مؤلفة من عكار وبشري والضنية.

كان تعاونه مع النائب سليمان فرنجيه كوزير للداخلية، إبان الذهاب الى الإنتخابات النيابية، عنواناً للصراع الدائر بين السوريين بقيادة الرئيس بشار الاسد والحريريين بالتعاون مع الاستاذ وليد جنبلاط، مؤشراً الى صعوبة التفاهم بين الفريقين.

صدر القرار ١٥٥٩، وقضى بانسحاب الجيش السوري من لبنان، عنواناً آخر، من عناوين الصراع السياسي، لان سوريا كانت ترفض مطالبة معظم اللبنانيين بالإنكفاء السوري الى ما بعد ضهر البيدر والتجمع في البقاع.

وخلال حكومة الرئيس عمر كرامي، قام باول جولة عربية له، حرص على البدء بها من السعودية، ومن ثم الى قطر، الا ان اغتيال الرئيس الشهيد رشيد كرامي واغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري كان منحى جديداً للصراع السوري – اللبناني.

وعندما حشرته السيدة النائبة بهية الحريري في مجلس النواب، عمد الرئيس عمر كرامي الى تقديم استقالته في المجلس النيابي، لانه يرفض ان يزايد عليه أحد في هذا الموضوع.

ومنذ حادث اغتيال الرئيس الحريري، ابتعد الرئيس عمر كرامي عن الأضواء، وعن رئاسة الحكومة، الا انه في اثناء تأليف حكومة الرئيس نجيب ميقاتي، اصر حزب الله على توزير نجله فيصل كرامي في مقعد من حصته، وزيراً للشباب والرياضة.

الا ان الوضع الحالي صعب، ويتزامن مع تطورات جديدة وغريبة الأطوار.

حوار الاقوياء والخصوم

الا ان الجمهورية تبدو، وكأنها معلقة، على الشغور، او عالقة في الفراغ بعد مرور قرابة ٢٢٥ يوماً، على عدم انتخاب رئيس جمهورية جديد.

واستطاع الرئيس نبيه بري، ان يجمع في دار الرئاسة الثانية في عين التينة حزب الله وتيار المستقبل، لحوار على القضايا المستقبلية، لكن بين الفريقين، عقدة المرشح الرئاسي وسلاح حزب الله ومشاركته في الحرب السورية.

الا ان الحوار بين العماد ميشال عون والدكتور سمير جعجع، يسلك طرقاً ايجابية، في نظر الفريقين بما يمهد للإتفاق على القضايا السياسية، لا على الشأن الرئاسي.

وهذا يشكل بداية سليمة لحوار جدّي، قد يفضي الى سلة توافق يتوقف عليها مصير الرئيس التوافقي او التوافق على صورة لبنان ازاء الملاحم السياسية المعروضة على الفريقين القواتي والتيار الوطني الحر.

في النصف الثاني من الاربعينات، احتدم الموقف السياسي، بين الموالاة والمعارضة، ودارت ازمة حادة بين الرئيس بشارة الخوري ورئيس الوزراء رياض الصلح، بسبب مداخلات السلطان سليم شقيق رئيس الجمهورية، في شؤون القضاء، متجاوزاً قانون المطبوعات السائد. ويروي وليد عوض صاحب مجلة الافكار الان، ونائب رئيس تحرير مجلة الحوادث سابقاً، في كتابه بشارة الخوري فارس الموارنة ان توقيف الصحافي الكبير سعيد فريحه صاحب الصياد بسبب حملته الضارية على الفساد والفاسدين وعلى السلطان سليم قد تركت له شعبية واسعة في الرأي العام، وجعلت العلاقة، متوترة بين بشارة ورياض.

الا ان الازمة الداخلية واكبتها ازمة اقليمية بين بيروت ودمشق. نجم عنها انفراجات حيناً وضغوطات احياناً، مما دعا الى عقد اجتماع لبناني – سوري في مصيف بلودان القريب من العاصمة السورية، وبحضور وزير الخارجية اللبناني فيليب تقلا ووزير المال الجديد في سوريا، بعد تأليف حكومة ناظم القدسي.

وكان لحضور فيليب تقلا دور اساسي باعتبار ان المفاوضات الحالية – السياسية مستمرة.

واسفر الاجتماع عن تأليف لجنة متابعة ضمت عن الجانب اللبناني: سعيد فواز، نقولا زبال، وانطوان موصلي. وعن الجانب السوري: حسني صواف، هنري رعد وسليم دجاني وواصل داغستاني.

واختيرت بيروت لا بلودان كمكان لانعقاد اللجنة، واحدث هذا الاجراء، استرخاء اقتصادياً بعد طول تشنج.

الا ان انفجاراً داخلياً حدث، بعد تظاهرة قادها انصار الشيخ سليم الخوري الذي ذاع لقبه على انه السلطان سليم تيمناً باسم السلطان سليم العثماني.

ويُقال ان شرارة الازمة انفجرت بين رياض الصلح والسلطان سليم احتجاجاً على قمع الحريات، خصوصاً بعد اقدام مدير الشرطة ناصر رعد ابن الضنية على توقيف كل من الصحافي سعيد فريحه والكاتب في جريدة النداء محمد النقاش.

واعتبر رئيس الوزراء ذلك الاجراء تجاوزاً على القانون وقفزاً فوق المؤسسات.

خسر معركة لا الحرب

ولأن رياض الصلح لا يقبل بأنصاف الحلول، فقد طلب تطبيق القانون بحق ناصر رعد، وكان التدبير الأولي إعطاء إجازة ادارية لمدير الشرطة مدتها شهر كامل، وأوكل منصب مدير الشرطة بالنيابة الى عزت خورشيد الذي اشتهر بعد ذلك كمدير تشريفات في قصر بسترس مقر وزارة الخارجية.

إلا أن الشيخ سليم الخوري خسر معركة دون أن يخسر.. الحرب!

فقد اختار يوم الخامس والعشرين من حزيران لينظم تظاهرة ثانية في فرن الشباك ضد رياض الصلح، وبرغم ان الأخير تدخل شخصياً لقمع التظاهرة، وسد الطرقات المؤدية الى مكان التظاهرة، وفرض عليها الحصار، فقد استطاع بعض السيارات لعدد من أنصار الشيخ سليم أن يخترق الحصار، وان يصل الى بيت السلطان، وأن تحصل هتافات ضد الحكومة ورئيسها..

وعلى طريقة وداوها بالتي كانت هي الداء، قرر انصار رياض الصلح تنظيم تظاهرة في شوارع بيروت ضد ما سموها تظاهرة الجبل، خوفاً من أن يأخذ الموقف طابعاً طائفياً.

وكان رياض الصلح مستعداً للتساهل في كل الأمور إلا ما يتعلق بالتجرؤ على المؤسسات، وهذا ما جعله يرفض رفضاً باتاً ان يعود ناصر رعد الى منصبه كمدير للشرطة، وفي غضون ذلك نشطت الوساطات بين السراي الحكومي وسراي فرن الشباك.

وأمسك ميشال شيحا في جريدته لوجور بالموقف في افتتاحيته على النحو الآتي:

لا بد ان يكون الرأي العام قد استمتع بهذا المشهد المدهش، ولكن الاستمتاع بالمشهد يمكن ان يتحول الى بلبلة.

لكن العين اللبنانية على المصير القومي لم تغفل لحظة واحدة، في غمرة البلبلة الداخلية، وهذا ما جعل لبنان ينضم الى سوريا ومصر في اتخاذ قرار بالانسحاب الرسمي من مفاوضات جنيف الخاصة بتشكيل لجان سلام عربية – اسرائيلية.

وجاء قرار الانسحاب الرسمي من هذه المفاوضات لأن الجانب الاسرائيلي رفض أن يبحث في عودة اللاجئين الا في اطار اتفاقية سلام نهائية.

وبالتوجه القومي نفسه قام رياض الصلح في شهر حزيران نفسه خلال وجوده في الاسكندرية بتوقيع معاهدة الدفاع العربي المشترك بعدما كان قد وقع بالأحرف الاولى في القاهرة يوم ٢٣ نيسان، وظهرت في نهاية النص تواقيع لبنان وسوريا والسعودية ومصر واليمن، واحتجب عن التوقيع كل من العراق وشرقي الأردن بحكم علاقاتهما المتوترة مع مصر والملك فاروق. وقد حاول رياض الصلح ان يرأب الصدع بين البلدان الثلاثة، وهذا دائماً كان دور لبنان، ولم يتوصل الى الحل المنشود، وبقيت المعاهدة محرومة من توقيعي بلدين عضوين في الجامعة العربية، وزاد تعطيل هذه المعاهدة بالإعلان المشترك لكل من فرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة عن الشرق الأدنى. وقام موقعو المعاهدة بإعلان سيادتهم في شراء السلاح.

الا ان الموقف اللبناني كان واحداً، ووفق الرئيس عبد الحميد كرامي العائد من لندن بعد علاج لمرض اصابه في الحنجرة. ليؤكد ان الطرابلسيين عندهم سوريا اولاً، وليس خالد العظم رئيس الوزراء او ناظم القدسي رئيس الجمهورية والشعب هو الباقي.

واحب بشارة الخوري ان يتلقف الصورة المشرقة للبنانيين في توحدهم، على الرغم من تنوع مواقفهم وراح يعزف على الوتيرة نفسها ويؤكد، ما قاله رياض، بان القطيعة ما اردناها… وما خشيناها.

وحتى يعزز صورته الرئاسية في عيون اللبنانيين والعرب، ضرب على الوتر نفسه في باقي خطب عيد الفصح، من القداس الرسمي في كاتدرائية مار الياس للروم الكاثوليك حيث ترأس الذبيحة الالهية المطران فيليبوس نبعة، الى كاتدرائية السريان الكاثوليك حيث ترأس القداس الكاردينال جبرائيل تبوني، وصولاً الى الكنيسة الأرمنية وقداس الكاردينال أغاجنيان، عند ضهور الاشرفية حيث أشاد الكاردينال الأرمني بأجواء الحرية التي ينعم بها لبنان، وتهيئ لها الدولة كل وسائل الانتشار. وكان الكاردينال أغاجنيان اول من أعطى للبنان صفة الرسالة فوق صفة الوطن، واعتبره بلداً ذا وجه انساني، لأنه وجه ديني يتطلع الى السماء سبق بهذه التسمية البابا يوحنا بولس الثاني بعشرات السنين.

إلا ان قريحة الشيخ بشارة كأديب لم تأخذ مداها بأفضل مما أخذته في مأدبة الغداء التي أقامها على شرفه لموسم الفصح المطران ايليا الصليبي، متروبوليت بيروت للروم الأرثوذكس، وابتدأها بخطاب يحيي فيه جهود الدولة اللبنانية، فوقف الشيخ بشارة يرد على التحية بكلمة نشرت سحابة الطيب في نفوس الحاضرين، ولا سيما حين ختمها بمسحة فلسفية قائلاً:

خشيت الله في أيام الرخاء، وفزعت اليه في الليالي الكوالح، واجتهدت ان اكون انساناً قبل أن أكون رئيساً.

وحاول الشيخ بشارة أن يجلس، إلا ان حماوة التصفيق الذي ظل يجلجل في القاعة داخل كاتدرائية الروم الارثوذكسية قرب مجلس النواب، ابقته واقفاً بضع دقائق وهو يتوجه بتحيات الشكر والامتنان.

وهكذا ارتاح الشيخ بشارة من الهم الداخلي، ونجح في تحجيم المعارضة، وكبح جماح صقري هذه المعارضة كميل شمعون وكمال جنبلاط، وامن جانب الرئيس عبد الحميد كرامي، ليفتح النافذة السياسية على دور لبنان العربي، ومشاكل البيت الآخر الذي لا بد وان تكون له انعكاسات على البيت الداخلي، وهو بيت الجامعة العربية.

لقد تردّت صحة الرئيس عبد الحميد كرامي، بعد عودته من لندن باسابيع، وادخل مستشفى الجامعة الاميركية في بيروت، ولازمه صديقه الدكتور يوسف حتي، الا ان ارادة الله كانت الغالبة. وقد نقل جثمانه الى منزل صهره المهندس مالك سلام في حي مار الياس، وكان التقليد يومئذ، ان تُلقى على الجثمان نظرة الوداع. وحرص الرئيس الشيخ بشارة الخوري والرئيس رياض الصلح على ان يكونا أول الواصلين الى الطبقة الثانية من تلك البناية.

لم يكتف الشيخ بشارة الخوري بذلك بل اتفق مع رياض الصلح على جمع الوزراء واتخاذ قرار باقامة مأتم وطني للزعيم الطرابلسي في العاصمة الثانية.

كان التشييع يوم الرابع والعشرين من شهر تشرين الثاني ١٩٥٠. وكان اللباس القاتم هو المطلوب من الرجال الرسميين في مأتم الرئيس عبد الحميد، جنباً الى جنب وقف الرئيسان بشارة الخوري ورياض الصلح، يصغيان الى طلقات المدفع الاحدى والعشرين تكريماً لذكرى الراحل الكبير أحد أبطال الاستقلال، وشريك الاثنين في سجن قلعة راشيا. كان النعش قد دخل الى عمق مقبرة باب الرمل، وسط الجماهير الحاشدة الغارقة عيونها في الدموع، فيما وقف الرئيسان عند رصيف مقابل باب المقبرة، في انتظار ان ينتهي أفراد العائلة من الدفن ويعودوا الى تقبل التعازي.

كان غياب عبد الحميد كرامي مؤثراً جداً في نفوس اللبنانيين، كما كان وداعاً كبيراً، في معظم لبنان، وليس في طرابلس والشمال فقط.

وهذا ما جعل الحداد عليه شاملا، وعزيزا.

بيد ان عبد الحميد كرامي، جسد في رحيله حضوراً سياسياً ودينياً وصورة الرجل الذي لا يلين، في أي موقف أو قضية.

باق وأعمار الطغاة قصار!

وكان عبد الحميد، طيب الله مثواه، شاغلاً في الحياة وشاغلاً في الممات. فقد أقيم للرجل مهرجان الاربعين لذكراه، داخل سينما ريفولي في بيروت. وكان في مقدمة الحضور الرئيس رياض الصلح، وبعض الوزراء الذين جلسوا في المقصورة الخاصة لهذه المناسبات. وما دروا أن أحد خطباء الاحتفال الشاعر العراقي محمد مهدي الجواهري سيفجّر أزمة سياسية، ويعجّل في ذهاب الحكومة، لتأتي حكومة حيادية لتشرف على الانتخابات.

وقد استهل الجواهري قصيدته بمطلع يخاطب عبد الحميد قائلاً:

باقٍ وأعمار الطغاة قصار

من سِفر مجدك عاطر موار

وتابع قائلاً:

عبد الحميد وكل مجد كاذب

ان لم يكن للشعب فيه ذمار

ووصل الى البيت – العاصفة حيث قال متطلعاً الى منصة رئيس الوزراء:

والمجد ان يحميك مجدك وحده

في الناس لا شرط ولا أنصار

في اليوم التالي كان مدير الامن العام يشرف على ترحيل الشاعر الجواهري من لبنان، بتهمة تعكير الامن، والتدخل في شؤون لبنان الداخلية، والتقطت الصحافة المعارضة، ولا سيما جريدة البيرق الناطقة بلسان حزب الكتلة الوطنية، هذه اللحظة السياسية لتهاجم الحكم والحكومة. ووجدها الشيخ بشارة سانحة لامتصاص النقمة في الشارع عن طريق تغيير الحكومة الصلحية، وافساح المجال امام العائلات السياسية السنية لتداول السلطة، ودائما بالاتفاق والتوافق مع شريكه في معركة الاستقلال رياض الصلح الذي كان الشيخ بشارة – كما يقول في مذكراته – حريصا على ادخال السكينة والاطمئنان الى نفس رياض.

كانت خطة الشيخ بشارة ان يخلف رياض وزير المال الحاج حسين العويني، ومن بعده عبدالله اليافي وصائب سلام، ثم تعود دفة الحكم الى رياض في الربع الاخير من ولاية الشيخ بشارة فيكون فاتحة كتاب عهد الاستقلال وخاتمته. فهل جرت الرياح بما تشتهي السفن؟

لم يكن الشارع البيروتي جاهزاً للاستغناء عن رياض الصلح في سدة الحكم.

تصادف عيد المولد، بثلاثة أيام مع عيد الميلاد. وفي مطلع شباط من العام ١٩٥١ قدم رياض الصلح استقالته رسمياً ليخلفه الحاج حسين العويني وزير المال، ويتسلم بولس فياض وزارة العدل، وابن جبيل ادوار نون وزارتي التربية والاشغال.

وارتأى ان تكون الحكومة ثلاثينية، لتشرف على الانتخابات.

وهكذا اسدل الستار على الوضع الداخلي، ليحول الاهتمام السياسي الى الوضع الاقليمي، بعدما أصبحت القضية الفلسطينية الشغل الشاغل للعرب.