IMLebanon

حصيلة «منتدى موسكو» السوري: الحل لم ينضج إيرانياً

  ليس معلوماً الى من كان يتوجه سيرغي لافروف، خلال لقائه مع السوريين المدعوين الى «منتدى موسكو»، حين دعا الى «الاستعداد لتقديم تنازلات» و»تغليب الحوار» و»إيجاد حل وسط». اذ إن وفد النظام اعتُبر متواضع التمثيل رغم وجود بشار الجعفري على رأسه، وهو سفير فوق العادة يمثل صلب النظام ويتمتع برضا ايراني، ولم يكن الوفد مخوّلاً البحث في حلول وإنما بمخاطبة الطرف الآخر (المعارض) لإبلاغه رسالتين: أن النظام باق ويرحّب برضوخهم لشروطه وعودتهم الى طاعته، وأنه مستعد لأي حوار هدفه الاتفاق على هدف مشترك هو محاربة الإرهاب. أما المعارضون الحاضرون فلا يملكون ما يتنازلون عنه وإنما دُعوا ولبّوا وفقاً لمعايير سبق لبشار الأسد أن حددها في خطبه ووافقت عليها طهران ثم برهنت موسكو فعلياً أنها قبلتها.

كان المشهد العام لـ «منتدى موسكو» يشبه الى حد كبير اللقاء الذي نظم في العاشر من تموز (يوليو) 2011 في اطار «الحوار» الذي رتّبه النظام وكلف نائب الرئيس آنذاك فاروق الشرع بتنظيمه وترؤسه. ولو قورنت النقاط العشر التي اتُفق/ لم يُتفق عليها في موسكو بـ «الوثيقة» التي قيل إن لقاء دمشق توصل اليها، لأمكن ايجاد مضمون مشترك، علماً أن «الوثيقة» كانت أكثر عمقاً وشمولاً، وأكثر انشائيةً ورطانةً بطبيعة الحال باعتبار أنها مجرد ورقة لم يراهن أحد على أنها يمكن أن تؤسس لـ «حل سوري – سوري»، علماً أن هذا الشعار كان ولا يزال صحيحاً، لكن النظام الذي كان أول من استخدمه وأصرّ عليه (ورد في مبادرة الجامعة العربية) كان أيضاً أول من أحبط ثم دمّر إمكان تطبيقه. اذ لم يستطع «وقف العنف» كشرط ضروري لازم للبدء بأي حوار.

لا بدّ أن المبادئ الثلاثة التي حددها لافروف موجّهة أولاً الى النظام، والأساسي فيها كلمات ثلاث هي «التنازلات» و»حلول وسط». وليس مؤكداً أن روسيا توصّلت الى إقناع الإيرانيين ثم النظام بجدوى التنازل أو بوسطية الحلول، على افتراض أن روسيا نفسها مقتنعة. فالأطراف الثلاثة المتحالفة تعتبر أن المعارضة هُزمت عسكرياً وأن «أصدقاءها» عمّقوا هزيمتها سياسياً، ولذلك لم يُبذل أي ذكاء أو حنكة في دعوتها أو بالأحرى عدم دعوتها الى حوار موسكو، وتقرر عقد «المنتدى» بـ «من حضر». وبعدما حضروا تبيّن أنه لا يمكن بأي حال تخريج أي حل مع هؤلاء، فأكثر من الثلثين منهم يستحيل تصنيفهم بأنهم «معارضون» ولعلهم لم يعرفوا لماذا وجّهت إليهم الدعوة. والأكيد أن غالبيتهم لا علاقة لها بما يعتبره النظام وحلفاؤه «ارهاباً» ولا قدرة لها على مكافحته، لكن عدداً منهم استُخدم في تبرير «ارهاب النظام»، وثمة أفراد بينهم هم من «الشبيحة» المعروفين ومع ذلك جيء بهم كمعارضين.

وطالما أن النظام لا يزال يستخدم الإرهاب عنواناً للتملّص من أي حل سياسي، كما فعل لإجهاض مفاوضات جنيف، وكما لا يزال مصرّاً في حوار موسكو، وبتزكية من لافروف، فهذا يعيد الأمور الى نصابها: لا تغيير في موقف روسيا، بل انها أماتت تدريجاً الحديث عن أن لديها مبادرة، وبالتالي لا تغيير في معطيات الأزمة. لكن الروس يريدون مفاوضات للاتفاق على اجراءات لـ «بناء الثقة بين النظام وقوى المعارضة والمجتمع المدني»، ويجب التساؤل هنا هل أن هذه الإجراءات مطلوبة الآن أم في سياق «محاربة الإرهاب» أم في ما بعد، وهل أن النظام طرف صالح ومؤهل لمحاربة الإرهاب، وإذا لم يمانع «المعارضون» الاتفاق معه ضد الإرهاب فهل يمكنه التزام اجراءات سياسية تتطلّب منه تنازلات ذات طابع أمني – عسكري؟

تساؤلات لا بد منها لأن أول البنود العشرة التي قيل إن «منتدى موسكو» توصّل اليه ينص على «وقف عمليات القصف العشوائي». فمنذ اليوم الأول اعتبر النظام أن بقاءه يتوقف على التقتيل اليومي، ولما كان منذ اسقاط حمص والقلمون لم يعد يخوض أي قتال لاستعادة مناطق فإن القصف بالصواريخ والبراميل بات عنواناً لوجوده، اذ يشعر بأن وقف التقتيل ايذان بضعفه وتلاشيه، لذلك فهو لا يستطيع الإقلاع عنه لمجرد بناء ثقة مع أي معارضين، لا سيما الذين اختار معظمهم للذهاب الى «حوار موسكو». أما «اطلاق سراح معتقلي الرأي والناشطين السلميين والنساء والأطفال» فهو يمسّ ايضاً عصباً وجودياً عند النظام الى حدّ أنه لم يهتم اطلاقاً بجنود أو بمدنيين من مواليه خطفوا أو وقعوا في الأسر عند المعارضة، أما معتقلوه فهم رهائن يستخدمهم للترهيب أو للابتزاز، أو لتدريب «شبيحته» على عمليات التعذيب من أجل القتل.

بين «اجراءات الثقة» أيضاً «السماح بإدخال الأدوية والأغذية والمساعدات الإنسانية»، وكما هو معلوم فإن عدم توفير الإغاثات تحوّل في يد النظام سلاحاً في حصارات التجويع ولم يستغنِ عنه إلا في الحالات التي تحوّل فيها التجويع الى هدنات استسلام. لم يستجب لنداءات منظمات الأمم المتحدة ولا لضغوطها ولا لقرار من مجلس الأمن وافقت عليه روسيا لعلمها أنه لن ينفّذ… ولا داعي للتوقف عند «تشكيل هيئة لحقوق الإنسان في سورية يحق لها التدخل (التدخل؟ أين وكيف؟ مع الأجهزة أم مع «القضاء»؟) ضد الانتهاكات»، أو عند «فتح الإعلام امام جميع السوريين»، فهذه من البنود الواهمة ما دام الأمر يتعلّق بحل يبقى فيه النظام بعقوله، وبالتالي بعاداته وتقاليده.

نأتي الى المهم، ولعله أحد هدفين سعى اليهما التحرك الروسي. فالبند العاشر صيغ بلغة شرطية تقول إنه «ينبغي أن تؤدي أي عملية سياسية الى حصر السلاح في يد الدولة السورية مستقبلاً». وهذا بديهي لكنه يطرح فوراً السؤال: أي عملية سياسية لأي دولة ولأي نظام؟ صحيح أن الصيغة مجرد تسجيل لفكرة لكنها وشت بالنية الحقيقية، وهي أن «الحل المنشود» يقع تحديداً في اطار النظام الحالي الذي لم يغيّر شيئاً في توجّهاته ولا يفكّر في تنازلات ولا يرى أمامه من يستحق أن يتنازل له… أما الأهم، وهو الهدف الآخر، فنجده في الدعوة الى «العمل على رفع العقوبات الاقتصادية والحصار المفروض على الشعب السوري»، ذاك أن روسيا وإيران بلغتا نهاية الطريق في دعمهما المالي والاقتصادي للنظام وترغبان في صدور مطالبة مشتركة (المعارضة + النظام)، بالأحرى من هذه «المعارضة»، برفع العقوبات الموجّهة اساساً للضغط على النظام كي يوقف العنف ويبادر الى تنازلات تعزز التوصّل الى حل سياسي. لكنه لم يفعل، بل لأنه لم يفعل، انعكست العقوبات على الشعب لأن اقتصاد البلاد كان في معظمه في أيدي رجالات النظام المستهدفين بالعقوبات.

تفيد الخلاصة الواضحة والسريعة لهذه القراءة لبنود «منتدى موسكو» بأن الأطراف الثلاثة (النظام وروسيا وإيران) بدأت عملية سياسية لإسدال الستار على «جنيف 1»، وقد اراد المنتدى اظهار ان طبيعة الأزمة تغيّرت (بفعل الإرهاب) على نحو تخطّى بيان جنيف وبالأخص توصيته الرئيسية بـ «انشاء هيئة حكم انتقالي بصلاحيات كاملة» بما في ذلك ما يتعلق بالجيش والأمن. ورغم القول إن المجتمعين التقوا على مبدأ أساسي هو «وحدة سورية وسيادتها واستقلاله»، فإن تركيز خطط النظام وحلفائه على ما يُعرف بـ «سورية المفيدة» وإقصاءهم المبرمج للمعارضة الفاعلة يناقضان روح الوحدة وجوهرها. لكن الحصيلة المتبقية في يد موسكو هي أن ظروف الحل الحقيقي لم تنضج، ولا تمكن بلورته مع «مَن يحضر» ولا بهذه النقاط البائسة التي عجز النظام عن استجابتها يوم كان قادراً ولم يعد قادراً على الاستجابة اذا لم يأذن له الإيرانيون.