قبل التمعّن في قراءة المقررات النهائية لمؤتمر «بروكسل 3» وما جناه النازحون السوريون والمجتمعات المضيفة منه، وقبل التوقف عند حجم التعهد بالمليارات السبع من الدولارات التي قطعتها الدول المانحة لهم في الداخل والخارج، على مَن أراد المواجهة ما لم يعجبه المسار الدولي أن يدرس خطواته بتأنٍّ لئلّا يرتكب دعساتٍ ناقصة فتتراكم الأخطاء ومعها الجرائم في حق لبنان واللبنانيين. وعليه كيف يمكن أن تكون المواجهة؟
لم يكن مؤتمر «بروكسل 3» مجرد لقاء عفوي عُقد مصادفة، لا بل فإن هناك عشرات الدول والمؤسسات ومراكز الدراسات والأبحاث الحكومية والخاصة قد وضعت كمّاً من التقارير والإحصائيات التي تقدم صورة واضحة عن حجم الأزمة الإقليمية والدولية التي يواجهها المؤتمرون الذين التقوا تحت عنوان «دعم مستقبل سوريا والمنطقة». وهي تقارير تناولت مختلف وجوه الأزمة وتردداتها من مختلف الجوانب الداخلية والخارجية الإنسانية والأمنية والقانونية، وتلك التي تُعنى بأدق تفاصيل العائلة النازحة والطلاب المشتّتين في مختلف أصقاع دول الجوار السوري والقارات التي اجتاحت موجات النزوح بعضها على مدى السنوات الثماني الماضية.
وعليه كان من الطبيعي ان تتجه الأنظار الى بروكسل حيث إنعقد المؤتمر. فناقش ممثلو أكثر من ستين دولة وعشرات المنظمات الحكومية والأممية والوطنية على مدى يومين تداعيات الأزمة السورية التي ستدخل من اليوم (السادس عشر من آذار) عامها التاسع من دون أن يلوح في الافق ما يشير الى الإستغناء عن الحلول العسكرية لمصلحة مشاريع الحلول السياسية. وبالطبع من بينها الآلية الخاصة بإعادة النازحين بملايينهم الأحد عشر المنتشرين بين الداخل والخارج.
وفي الوقت الذي طالب رئيس الحكومة سعد الحريري في كلمته امام المؤتمر بنحو مليارين و900 مليون دولار للبنان لإستجابة حاجاته للنازحين، تعهّد المؤتمر في نهاية اعماله بتأمين سبعة مليارات من الدولارات وفق جداول يمتد بعضها للسنوات الثلاث المقبلة وفي اكثر من مجال انساني واجتماعي وتربوي وصحّي، عدا عن تلك التي ستخصَّص للبنى التحتية والمجتمعات المضيفة من دون أن يلامس أيّ منها ما يخشاه اللبنانيون من توطين على رغم بروز بعض المشاريع التي تحدثت عن إعادة التوطين في بلد ثالث.
وعلى رغم من حجم المفاجأة التي لم يكن يترقبها كثر، ببلوغ التعهّدات المليارات السبعة التي تحدث عنها المؤتمر، فقد بدأ المؤتمر يتعرض لإنتقادات بعض المواقع اللبنانية وبينها من اهل الحكم والحكومة تحت عنوان أنه كان مؤتمراً «لتمويل النازحين وليس للعودة». وعلى رغم من اعتبار هذا القول مجرّدَ توصيف للنتائج، فقد كان واضحاً منذ البداية أنّ المؤتمر لم يُخصَّص لبرامج العودة وأنّ على مَن انتظر مثل هذه «المفاجأة» أن يعيد حساباته بدقة وعقلانية.
فالمجتمع الدولي في وادٍ وبعض اللبنانيين في واد آخر، وتحديداً عند من لا يزالون يعتقدون أنه عقد من اجل لبنان وحسب، وأنّ مثل هذه المهمة ممكنة في الوقت الراهن.
ففي الشق السياسي والديبلوماسي من اعمال المؤتمر برزت في وضوح العوائق التي تحول دون تبنّي المجتمع الدولي مثل هذه البرامج لأسباب أقل ما يُقال عند توصيفها إنها سياسية وأمنية واقتصادية وديبلوماسية، وإنّ العودة مطلوبة الى مضمون المقال المشترك الذي نشره السفيران الفرنسي والألماني برونو فوشيه وجورج بيرغلين في «الجمهورية» أمس حيث إعتُبِر مرآة استباقية لما آلت اليه اعمال المؤتمر.
فقبل أن تصدر التوصيات من بروكسل قال السفيران معاً إنّ ما هو مهم بالنسبة الى بلديهما هو انه «يحق لكل لاجئ العودة إلى دياره»، وانّ عليهما أن «يتّحدا في الدفاع عن حق جميع السوريين في العودة». وأضافا بما يطمئن الخائفين من اللبنانيين انّ «مستقبل اللاجئين السوريين الموجودين في لبنان هو في سوريا». لكنهما وعلى رغم من ذلك فقد لفتا الى لأمر مهم جداً تناوله المؤتمر بفاعلية اكبر عندما قالا «أنّّ البنى التحتية المدمّرة ليست العائق الرئيسي أمام العودة» بمقدار ما يشكّل «مناخ الخوف والظلم في سوريا. منذ نشوب النزاع من مخاطر». فـ «النظام إعتقل وأخفى قرابة الـ٧٠،٠٠٠ شخص سوري» الى درحة بات «من المستحيل على أيّ لاجئ الثقة بالعودة الآمنة». فهم ـ أي السوريون – يعلمون انّ الظلم البنيوي في انتظارهم: مصادرة الأراضي، مستحقات مالية عن السنين التي أمضوها في الخارج، غرامات جزائية على وثائق شخصية منتهية الصلاحية ونظام قضائي منحاز لن يدافع عن حقوقهم».
وأمام هذه المقاربة الصريحة، والتي لا تتحمّل كثيراً من الجدل ثمة من ينصح المعترضين على مسار بروكسل أن يبذلوا جهداً مضاعفاً لمواجهة مثل هذه الخطوات العملية وأنّ عليهم، على الأقل، إتخاذ بعض الخطوات المبدئية لإثبات امكان تنظيم قوافل العودة بوسائل أخرى. ومنها على سبيل المثال لا الحصر:
– اقناع المحور المناهض لمسار «بروكسل 3» والذي تقوده روسيا وايران وتركيا ومن خلفها بعض الدول الأخرى، القيام بما أمكن لتوفيرعودة السوريين الى حيث يستطيعون، سواء الى المناطق التي يسيطرعليها النظام أو تركيا وايران معاً. فالأراضي السورية تتسع لثلاثة من جيوشهم وحلفائهم الذين يساندون النظام.
– وان كانت هذه الخطوة صعبة على اللبنانيين فمَن يمنع التفاهم مع النظام مباشرة عبر وزراء حركة «أمل» و»حزب الله» و»الحزب الديموقراطي اللبناني» ومعهم وزراء «التيار الوطني الحر» و»المردة» على تنظيم برامج عودة النازحين غصباً عن المجتمع الدولي، فالمعابر بين لبنان وسوريا مفتوحة لهم ولن يكون هناك أيُّ عائق يحول دون ذلك.
وثمّة مَن ينصح بمعاودة لبنان التزام ما تعهّد به امام المجتمع الدولي وترك المسار امام الراغبين في الحل مع القيادة السورية، لعله يمكن الوصول الى اثبات فشل ايّ من الخيارين لتكون الأمور واضحة قبل فوات الأوان، فيدفع لبنان واللبنانيون ثمن النزاع الكبير في المنطقة من حسابه وارضه وديمغرافيته الهشة.