توحي المعلومات الواردة من عرسال بأنّ شيئاً ما يجري تحضيره للجولة المقبلة من القتال. وبعيداً من الأنظار، يقوم مقاتلو «داعش» و«النصرة» بتحرّكات تُنذر بمرحلة أشدَّ قساوةً من سابقاتها. لكنّ المواجهة محصورة في الزمان والمكان والمدى الجغرافي.
لم يقتنع كثيرون بأنّ معركة طرابلس الأخيرة كانت خاتمة الأحزان، لا في المدينة ولا في سواها. فاللبنانيون اعتادوا على هذا النوع من المخدّرات. وثمّة جولات جديدة على الطريق. لكن ما يطمئن هو الآتي: التفجير الشامل ممنوع!
في الأيام الأخيرة، مع تزايد المخاوف من انهيار شامل للأوضاع السياسية والأمنية، تلقّى المسؤولون اللبنانيون تطمينات جديدة عبر أقنية ديبلوماسية: لا تخافوا. لبنان ما زال يتمتَّع بالحصانة. هو لن يسقط. و«الغطاء الدولي الواقي» فوقه لن يتمزَّق. ومهما اتَّسع الاهتراء الأمني والسياسي والاقتصادي، فهو لن يطيح بالحدِّ الباقي من السلطة المركزية.
ولذلك، عندما انتقلت النار من عرسال – القلمون إلى طرابلس – المنية – الضنية – عكّار، خشيَ كثيرون أن تكون الفتنة السنّية – الشيعية الشاملة قد اندلعَت فعلاً، وبلا ضوابط. والخوف الأكبر كان على الجيش. فهو يكاد يكون المؤسسة الوحيدة الباقية فوق الجميع، ويقابلها من جانب آخر مصرف لبنان.
ولكن، بدا الجيش متماسكاً جداً في طرابلس. وكشف الخلايا الإرهابية في مناطق شمالية أخرى. وانطفأ الحريق الطرابلسي فجأة، وفي ذروة إشتعاله. وطرح الكثيرون أسئلة عن الغطاء الذي سمح للجيش بهذه الإنجازات، في مواجهة تنظيمات إرهابية قد تكون قادرة على خوض «حرب عصابات» طويلة المدى مع الجيش بهدف إنهاكه.
المعنيّون ينقلون أجواء تؤكّد أنّ إخماد المعارك في طرابلس لم يكن صدفة. فالعديد من الأقنية الديبلومسية الغربية، وفي مقدّمها واشنطن، تحرَّكت خلال المعارك، وأبلغت قوى إقليمية، لها تأثيرها على المقاتلين، بضرورة إنهاء التفجير والانسحاب من أرض المعركة، ونقلت إلى قوى محلية سياسية ودينية تمنّيات مماثلة.
وقد تمّت الاستجابة لهذه الرغبة. وفي الوقت عينه، أعلنت واشطن عبر سفارتها دعم الجيش وسارعت إلى تزويده كمّيات من الأسلحة والذخائر والصواريخ المناسبة لحرب الشوارع.
ويقول متابعون: يمكن التهاون مع الاشتباكات والمواجهات والإرباكات الموضعية، أي تلك التي تجري في مناطق لبنانية محدَّدة ومحصورة. لكنّ قيام التنظيمات الإرهابية بالسيطرة على مناطق كاملة، كبعض الشمال (طرابلس – المنية – الضنية – عكار) أو البقاع (عرسال أو البقاع الغربي) أو الجنوب (صيدا – عين الحلوة) ممنوع.
وكذلك، ممنوع قيامها بربط المناطق المتوتّرة (الشمال بعرسال مثلاً). ومن هنا، كان الحسم السريع والمفاجئ في طرابلس، والذي تمَّ بناءً على إشارة دولية حاسمة ودعم مطلق للجيش بمنع انفراط الوضع في لبنان، انطلاقاً من شرارة طرابلس.
ويقرأ المعنيون هذه الإشارة كعلامة اطمئنان مؤكّدة إلى استمرار الغطاء الدولي للوضع اللبناني. فقبل العام 2005، كانت سوريا هي المتعهِّد الشرعي لهذا الوضع، بتكليف دولي. وكانت تستخدم هذا التعهُّد وفقاً لحساباتها. وبعد 2005، زالت وصاية سوريا، لكنّ الوضع اللبناني لم يُترَك بلا «وصايات»، بالمَعنَيين الإيجابي أو السلبي.
وعلى مدى 9 أعوام، مرّ لبنان بمواجهاتٍ صعبة شاركت الوصايات الخارجية في صناعتها، وأبرزُها نهر البارد و7 أيار وحروب طرابلس وعبرا وعرسال وسواها. فهذه المواجهات تمّت بالأصالة عن القوى المحَلية وبالوكالة عن القوى الإقليمية. لكنّ «الوصايات» إيّاها هي التي صاغت التسويات لئلّا تصبح المواجهات شاملة وقاتلة.
وهكذا فالنموذج اللبناني من الوصايات يحمل السلبيات والإيجابيات في آن معاً. فلولا التدخّلات الخارجية لما تلقّى العديد من الأطراف تغطيةً للتفجير. ولولاها لما تبلّغَ هؤلاء أنفسهم تعليمات بوقف القتال والانكفاء… حتى الجولة التالية!
ويجدر الاعتراف هنا، وعدم الاختباء وراء الإصبع: ففي طرابلس، ولدى السُنّة عموماً، ارتفعَت وتيرة الأصوات الاعتراضية على توجُّهات الجيش، وعبَّرت عن ذلك علناً. ولدى الشيعة، يتلقّى الجيش تأييد «حزب الله» ما دام سائراً في الاتجاه الملائم. وأمّا إذا ارتدَّ إلى اتّجاهات أخرى، فالدعم يصبح مسألة فيها نظر.
والأهم هو: إلامَ سيقود تبرير «الحزب» لتورُّطِه ضد السوريين في سوريا، والردُّ السنّي بتبرير تورّط السوريين في قتال «الحزب» في لبنان؟ فكثيرون يخشون انفلاتَ الفتنة، بلا حدود، إذا لم تتدخّل القوى الخارجية… التي هي نفسُها سببٌ أساسيّ لاندلاع الفتنة أيضاً.
وهكذا، يعيش لبنان بفضل الغطاء الدولي. ومن السخرية استجداء اللبنانيين للوصايات أو الحمايات الخارجية في آن معاً، لتساعدهم على التقاتل، ولتمنعَهم من إحراق أنفسهم. إنّها سخريةٌ بطعم الدم والكوارث المستدامة.