مقولتان شعبيتان يصح تطبيقهما على الواقع اللبناني، في شقّه الاقتصادي تحديداً، لتوصيف ما يجري. المقولة الأولى مصرية تقول: «يعمل ايه المشط في الوجه العكر؟». المقولة الثانية لبنانية تقول: «كثرة الطباخين تشيط الطبخة». المقولتان تعبّران خير تعبير عن الكوميديا السوداء التي يعيشها لبنان. من جهة، بات الاقتصاد اللبناني معلّقاً على إجراءات بديهية، يحاول البعض استثمارها، بتعظيمها لترقى إلى مستوى الإنجازات الباهرة. ومن جهة أخرى، بات الكل خبيراً في علم الاقتصاد. فترى هذا الفريق أو ذاك يتبارى إلى تقديم «ورقة إصلاحية» بوصفات السياسة اللبنانية المعروفة، في إطار المزايدات الفجّة.
الإجراءات السريعة التي اتخذها مصرف لبنان خلال الأيام الماضية إيجابية بطبيعة الحال، لكنها لا تكفي على الإطلاق لتجنيب البلاد السيناريوهات الكارثية.
صحيح أنّ تعميم المصرف المركزي أبعد قطاعات حيوية كالمحروقات والطحين والدواء، وجنّب اللبنانيين شللاً في بلد يفتقد أدنى مقومات النقل المشترك، أو طوابير المصطفين أمام الأفران، وهو المشهد الذي يتذكّره كل من عاش تجربة الحرب الأهلية، أو حتى فقدان العلاجات الطبية، كما جرى في بلد مثل فنزويلا، إلّا أنّ ذلك لا يخفف من القلق الذي يستشعره اللبنانيون، بعدما صار سعر صرف الدولار حديث كل الناس.
أعدم القابضون على السلطة الليرة، ويتباكون على جريمتهم هذه بالقول إنّ الليرة ما زالت بخير!!
كل لبناني يشعر بالقلق اليوم تجاه فرضية إنهيار البلد إقتصادياً. هذا القلق بالتأكيد لا تبدّده التطمينات المتصلة بسلامة الوضع المالي، فحتى التأكيد المستمر على أنّ «الليرة مستقرة» بات أشبه بنكتة سخيفة وموضع سخرية من اللبنانيين، سواء في احاديثهم اليومية، أو بما يكتبونه على صفحاتهم في مواقع التواصل الاجتماعي، فكيف الحال إن ذهب أحدهم إلى محل للصيرفة ليجد الدولار أعلى من الصرف الرسمي، أو أنّ حتى بعض خدماتهم (من بطاقات شحن الهاتف المحمول إلى اقساط الجامعات الخاصة) باتت تسعيرتها مفروضة بـ»الأخضر» الأميركي؟!
خلال الحرب الأهلية، انتشرت نكتة واقعية، من وقائع الأيام السود التي شهدت صعود الدولار أمام الليرة، مفادها أنّ أحدهم ذهب ليشتري ربطة خبز فطلب البائع ثمنها 50 ليرة، فسأله المواطن «لكنّ في الراديو قالوا إن سعرها 30»، فأجابه البائع: «إذاً، اذهب واشترِ من الراديو».
لا يكفي إذاً تطمين المواطن إلى أنّ الاقتصاد ليس على شفير الانهيار بالكلمات فحسب. ثمة حاجة إلى المصارحة الشاملة، وقول الأمور كما هي: ما المشكلة؟ إلى أي درجة بلغت المخاطر؟ إلى متى يمكن البلد أن يصمد؟
الأهم من المصارحة أن تقترن المعالجة الاقتصادية، إن كان ثمة نية حقاً في هذا الإطار، برؤية موحّدة، أقلّه على مستوى القوى السياسية، بعيداً من مزايدات اللعبة السياسية التي تُدار على طريقة أسوأ الألعاب الصبيانية في مرحلة ما قبل المراهقة.
ثمة أسس يمكن البناء عليها في خطة الانقاذ تلك، بدءاً من احتياط العملات الأجنبية الذي يمتلكه مصرف لبنان (وإن كان ثمة حاجة إلى الشفافية في تحديد حجم وأسباب التقشف المفاجئ في العملة الصعبة)، بجانب احتياط الذهب (وإن كان ثمة حاجة ملحّة أيضاً لتحديد ظروف تسييله أمام اللبنانيين في ظل كل الشائعات التي تحوم حوله)، مروراً بوجود قطاعات منتجة يمكن أن تضخ أموالاً في الاقتصاد، إذا طُهّرت ولو بالحد الأدنى من الفساد والمحسوبية، وصولاً إلى الفرصة التي قد تكون الأخيرة في الاتفاق على الإصلاحات التي من شأنها أن تُفرج عن أموال، أو بالأحرى قروض «سيدر».
لكنّ البناء على ما سبق من أسس، يتطلب في مجمل الأحوال أن يكون ثمة حد أدنى من التوافقات السياسية، خصوصاً أنّ القاصي والداني يدركان أنّ جزءاً من الأزمة الاقتصادية يعود إلى أجندات سياسية خارجية.
أولى هذه الأجندات أميركية طبعاً. فالعقوبات الأميركية الأخيرة على القطاع المصرفي، فضلاً عن خنق التحويلات من المغتربين إلى لبنان، تؤكّد وجود قرار أميركي باستخدام الاقتصاد أداةً للضغط السياسي، سواء داخلياً (محاصرة «حزب الله») أو إقليمياً (الضغط على إيران عبر «حزب الله»)، وهي أداة لا يمكن أن تتحقق لو توافر قدر من التوافق الوطني على البديهيات السياسية التي تمنع تحويل الاقتصاد اللبناني إلى جبهة لتصفية الحسابات.
ثاني تلك الأجندات، تتعلق باللاجئين الفلسطينيين، الذين طالما أُقحموا في البازارات السياسية الإقليمية، وهو ما يفسّر اليوم الكثير من المخاوف حول ارتباط الضغوط الاقتصادية اللبنانية بتسوية ذات طابع اقتصادي للتوطين، في إطار «صفقة القرن».
أما ثالث هذه الأجندات، وهي امتداد للثانية، ولا تقلّ عنها خشونة، فتتعلق بالنازحين السوريين، الذين يجادل منظّرو الاستقرار الاقتصادي في لبنان على أنّ المجتمع الدولي لن يترك لبنان لمصيره، خوفاً من احتمالات تدفّق أكثر من مليون سوري إلى أوروبا!
ما جرى اليوم في شمال سوريا ليس تفصيلاً في انعكاساته على الاقتصاد اللبناني. العملية العسكرية التركية التي قد تنطلق بين لحظة وأخرى، في حال استقرّ الضوء الأخضر الأميركي على ما أعلنه ترامب في تغريدة الانسحاب قبل يومين، عنوانها العريض إقامة «منطقة آمنة» يمكن أن تشكّل ملاذاً للاجئين، وهو ما يثير احتمال منطقي، بأنّ اللاجئ السوري، الذي عانى ما عاناه في لبنان، وعانى لبنان ما عاناه بسبب ما شكّله من ضغط اقتصادي – مجتمعي، قد يجد نفسه مضطراً في نهاية المطاف العودة إلى تلك البقعة «الآمنة»، وعندها ستسقط ورقة التوت عن تنظيرات الاستقرار!
الأهم ممّا سبق أنّ أحداً لا يمكن أن يحك جلد الاقتصاد اللبناني، إلّا ظفر اللبنانيين أنفسهم. المجتمع الدولي اليوم أقل استعداداً لأن يكون سخياً في انقاذ بلد مثل للبنان، والتجربة اليونانية أكثر الأدلة وضوحاً على ذلك.
هذه حقيقة تنطلق من حقيقتين فرعيتين:
الأولى، انّ العلاقات بين الدول لا تبنى على مجرّد الصداقات غير النفعية. وعلى هذا الأساس، فإنّ كل ما خرجت به زيارة الرئيس سعد الحريري للامارات – على أهميتها – لا يمكن النظر إليها إلا باعتبارها مجرّد استعراض للانجازات، يمكن للطرفين التباهي به، دونما نتائج جوهرية. وكذا الحال حين يتعلق الأمر بوديعة قطرية هنا أو سعودية هناك، وهي لا يمكن النظر إليها إلّا بوصفها مجرّد فقّاعات إعلامية او «مسكّنات» موضعية.
الثانية، إنّ المجتمع الدولي اليوم يعيش مرحلة القلق من الركود أو ربما الكساد، على وقع الحروب التجارية بين الدول العظمى التي تدفع بالاقتصاد العالمي نحو منزلقات خطيرة، بحسب ما يتوقع الكثير من المحللين. فإذا كان العالم كله متجهاً إلى هذا السيناريو الأسود، فمن سيهتم بأمر اقتصاد لبنان، خصوصا انّ الكل على يقين أنّ كل ما يُضخ فيه سيذهب أدراج الرياح.. هذا إذا بادر أحد إلى الضخ اصلاً!