دخل الأميركيون والإيرانيون في مسار باتجاه واحد لا عودة فيه إلى الوراء.. تسابقوا في كشف أوراقهم كلها قبل وضعها على طاولة المفاوضات. بل الغريب، أنّهم وبالتساوي، نسفوا مسبقاً مسبّبات الغموض المعهود في التفاوض ذي الطابع الاستراتيجي: أوباما لم يعوّف وسيلة ولا طريقة، بما فيها النكبة السورية! من أجل تأكيد «صدقيّة» سعيه إلى اتفاق مع إيران، أساسه تشليحها «المشروع النووي».. وطهران، من جهتها، لم تعوّف وسيلة أو طريقة لتأكيد «صدقية» سعيها إلى ذلك الاتفاق تحت وطأة أكلاف ذلك المشروع، واستحالته وتأثيرات العقوبات الاقتصادية والمالية على مجمل وضعها.
ولذلك رأى كثيرون، ومسبقاً، أنّ المفاوضات النووية الماراتونية، كانت محكومة منذ بدايتها بنتيجة وحيدة هي «الاتفاق»، برغم كل المطبّات والعقبات والصعوبات، الفعلية والمفتعلة في طريقه. بل الواقع هو أنّ الطرفَين المعنيَّين اختارا ذلك الطريق، نتيجة ما بدا ويبدو، أنّها «حتميّة» مزدوجة: واشنطن استبعدت «الحل العسكري» منذ البدايات. فيما وجدت طهران نفسها أمام «تابو» نووي كبير جداً، بل هو أكبر من كل شعاراتها.
وواجب التذكير هنا، بأنّ قضية «المشروع النووي» انفجرت خلال ولاية الرئيس جورج بوش الابن، الذي بدأ ولايته الأولى بحرب أفغانستان وأنهى ولايته الثانية بحرب العراق. لكنه بينهما، لم يأخذ أي خطوة تدلّ على منحى حربي باتجاه إيران. وبالتالي، إذا كان السلف «المقاتل» اختار طريقاً آخر غير الحرب، فكيف الحال مع الخلف «المسالم» الذي اختار لإدارته سياسة معاكسة عمادها الانكفاء السلبي إلى الداخل الأميركي؟!
ومع ذلك، يستطيع الرئيس الأميركي أن يدّعي أنّه حقّق انتصاراً، وتمكّن في النتيجة، من إعطاب أهم وأكبر مصادر الخطر على المنطقة والعالم، من دون أي كلفة بشرية أو مادية يُعتدّ بها.. لكن ماذا يمكن للقيادة الإيرانية أن تدّعي في المقابل، وهي التي دفعت أفدح الأثمان من ثروات بلدها وعلى حساب حاجياته التنموية الأساسية.. وسبّبت للشعوب العربية والإسلامية (ولا تزال) أفدح النكبات والويلات، في مقابل سعيها المحموم إلى مراتب «الدول العظمى» من دون أن تصل إلى شيء؟!
يدخل البعض من باب المنطق ليقول، إنّ «المشروع النووي» المجهض يُفترض أن يدفع بأصحابه إلى التفريق بين الوهم والواقع والشعار والتطبيق والممكن والمستحيل.. وبالتالي الكفّ عن كرع الماء المالح ثم الابتسام إيحاءً بالنشوة! وأول ذلك هو التشبّه (تماماً بتاتاً) بـ»الشيطان الأكبر» السابق! أي إذا كانت الولايات المتحدة، وهي أعظم وأكبر وأخطر وأهم دولة على وجه الأرض وبكل المقاييس، العسكرية والاقتصادية والمالية والبشرية والفكرية والعلمية.. الخ، آثرت عدم الاستمرار في سياسات (وحروب) مكلفة وباهظة، فلماذا لا تفعل مثلها إيران، وهي الدولة المتواضعة الإمكانات، والتي لا يمكن أن تُقارَن عسكرياً واقتصادياً ومالياً وعلمياً ولو بدولة واحدة في أوروبا الشمالية؟!
.. «اتفاق فيينا الموعود« قد يكون بداية تحرّر إيران من أسر أوهامها المدمّرة لها ولمحيطها وقد لا يكون.. لكن عسى أن لا يأخذ ذلك التحرّر، أو عدمه، ثلاثة عقود جديدة!!