بهدوء |
من راية حزب الله على مرتفع تلّة موسى بالقلمون إلى مرتفَع تصريحات علاء الدين بروجردي في دمشق، يستعيد تيار المقاومة، المبادرة : لا مساومة على سوريا. رسالة ليست موجهة، فقط، للأميركيين وحلفائهم الإقليميين. إنها، أيضا، وبالقَدر نفسه، موجهة للتيار الليبرالي الإيراني الذي يتحسس تنامي قواه، خصوصاً بعد الاستقبال الجماهيري الحافل لوزير الخارجية، جواد ظريف، العائد بـ «اتفاق الإطار» حول الملف النووي.
هل سيتحوّل هذا إلى اتفاق دائم؟ سنرى، أولا، ما إذا كانت سفينة المساعدات الإيرانية، سترسو في ميناء الحديدة اليمني، بأمان. ذلك أن اعتراضها قد يُشعل مواجهة عسكرية مباشرة مع السعودية. سفينة التحدي ستوضّح إلى أي مدى يذهب الأميركيون في القبول بالحدود التي قررت الجمهورية الإسلامية، وضعها للاتفاق النهائي حول النووي.
السياسيون الغربيون، وفقاً لتقارير دبلوماسية، معجبون بظريف؛ إنه نمط الإيراني الأكثر تجاوباً مع «العقلية الغربية». هل حصلوا منه، كما تؤكد تلك التقارير المتطابقة، على إيماءة بالتعهد بالموافقة على البند الذي يعتبره الغرب شرطاً لإنجاز الاتفاق التاريخي المأمول مع طهران؟ هذا الشرط هو السماح للمفتشين الدوليين بالتفتيش المفاجئ على أي منشأة مدنية أو عسكرية، يقررون الدخول إليها. في ذلك، بالطبع، مساس بالسيادة لن تقبلها القوى الإيرانية المقرِّرة، وعلى رأسها المرشد. الفريقان، إذاً، أمام معضلة جدية. إنما، في الأخير، قد يدفع الرئيس الأميركي، باراك أوباما، برهانه الإيراني حتى النهاية. وهناك مؤشرات على أن ذلك الرهان يتجاوز النووي والملفات الإقليمية، إلى دفع عملية اجتماعية ــــ سياسية تؤدي إلى لبرلة الجمهورية الإسلامية، من خلال تشجيع القوى الداخلية ــــ «الإصلاحية» ــــ الطامحة إلى إعادة اندماج إيران في النظام الرأسمالي الغربي؛ فأبعد من سوريا والعراق واليمن، وأبعد حتى من الصراع مع إسرائيل، تمثّل إيران، اليوم، بيضة القبّان في الصراع العالمي المتشكل بين القطب الروسي ــــ الصيني والقطب الأميركي ــــ الأوروبي ــــ الياباني. هل تذهب إيران، بدولتها الوطنية ونظامها السياسي الدينامي وقدراتها الاقتصادية والعلمية ـ التقنية والدفاعية، صوب الاندماج في منظومة «البريكس»، أم تعود ادراجها للاندماج في المنظومة الرأسمالية الغربية؟ وهو نفسه سؤال المصير المطروح على كل القوى الإقليمية الطامحة إلى التقدم في العالم. سؤال مطروح على إيران بحدّة، ولم يجر، حتى الآن، حسم الصراع حوله؛ لكن قوى الاستقلال والمقاومة، المتجذرة في النظام الإيراني، تجيب، أولا، في السياسة الإقليمية، وتؤجّل ــــ أو أنها لم تتوصل بعد ــــ إلى الإجابة على مستوى السياسة الدولية.
على هذه الخلفية بالذات، تنعقد القمة الأميركية ــــ الخليجية، المرجّح أن تكون مفصلية بالنسبة للمشهد الإقليمي كله. في تلك القمة، سيكون هناك الكثير من الإنشاء الدبلوماسي الذي يحفظ ماء وجه السعودية. لكن، في المضمون، هناك رسالتان أميركيتان واضحتان سيتم تبليغهما لزعماء الخليج، هما (1) أمن الخليج هو مهمة أميركية، لا خليجية؛ ستوفر الولايات المتحدة للخليج (كما هو الحال بالنسبة لإسرائيل) الحماية إزاء إيران، إنما في إطار منظومة دفاعية تقودها واشنطن، لا من الناحية العسكرية فقط، بل ومن الناحية السياسية أيضاً. وبالتالي، لا مكان لمشروع سعودي، أو سعودي ــــ إسرائيلي، مستقل، ولا مكان لمغامرات حربية لا تصدر الأوامر بشأنها من واشنطن؛ على الرياض وتل أبيب، أن تفهما أنهما جزء من منظومة أمنية ــــ سياسية أميركية في الشرق الأوسط، ممنوع اللعب خارجها، وليس للسعوديين والقطريين والإسرائيليين أي دور خاص في حل الملفات الإقليمية، (2) الهدف رقم واحد على أجندة المنظومة الأمنية ــــ السياسية تلك هو محاربة الإرهاب؛ فاللعبة انتهت. لقد سمح الأميركيون، خلال السنوات الأربع الماضية، للخليج وتركيا، بالاستخدام المفرط للقوى الإرهابية، من أجل كسر المحور المضاد؛ فلم ينكسر. وقد أظهرت الحرب السعودية على اليمن، وقبلها الحرب السعودية ــــ الخليجية على سوريا والعراق، والحرب القطرية ــــ التركية على ليبيا ومصر، أنه لا يوجد حلفاء محليون للخليج وتركيا، سوى التنظيمات التكفيرية الإرهابية التي خرجت من القمقم، ولم يعد بالإمكان إدارتها، وتحولت إلى خطر داهم على الدول الغربية، أيضاً. خطر يتعاظم منبعه الايديولوجي والمالي هو السعودية ودول الخليج التي أصبحت مطالبة بإجراء إصلاحات تحد من آليات تصدير الإرهاب ورعايته.
هل ستواصل الرياض ــــ التي احتجت مسبقا على الاستدعاء الأميركي المُهين، بتخفيض مستوى تمثيلها في كامب ديفيد ــــ التعنّت؟ سيكون الاختبار الأسرع في اليمن. ولكن، حين تكف السعودية عن الحرب في هذا البلد، ستكون قد خرجت، أيضاً، من الترتيبات السياسية حول مستقبله، تماماً كما هو الحال بالنسبة لسوريا والعراق. «المشروع» السعودي ــــ الخليجي، انتهى؛ ليس لهذه الممالك والإمارات سوى وضع المحميات.
هذا ما فهمته، جيداً، تركيا الأطلسية، حين رفض الأميركيون، مجدداً، طلبها بإنشاء «منطقة آمنة» في سوريا؛ فلم تستطع أن تحصد نتائج غزوة إدلب، سياسياً. ما المطلوب من تركيا في المدى المنظور؟ ليس سوى قلع شوكها بأيديها، أي تدبُّر أمر الخلاص من جيش الإرهابيين، الذي استقدمته ورعته وجهّزته وحمته في السنوات الأربع الماضية؛ ممنوعٌ تسريح هذا الجيش، بل تقاطره كله على إدلب، حيث يواجه مَقْتَلَة شاملة، تتلوها مقتلة أخرى في الرقّة. ليس على الجبهة الأردنية، وضعٌ مشابهٌ؛ فعمان كانت أكثر حذراً. ولكن السياسة الأردنية التي سارت، في الأزمات الإقليمية للربيع العربي الأسود، وفق أجندة خليجية ــــ لا أردنية ــــ تبدو، اليوم، مدعاة للسخرية أكثر مما تدعو للنقد؛ فلا دور ولا مساعدات ولا ضمانة إزاء تدفّق الارهابيين إلى الأراضي الأردنية، ولا حصانة إزاء مشروع الوطن البديل.
المشروع العثماني هو، أيضاً، انتهى؛ لكن إيران ما تزال ترى، في تركيا، شريكاً؛ تصمت عنها، رغم أنها لا تقل، في سوريا، عدوانيةً وفجوراً، عن السعودية في اليمن؛ لإيران مصالحها المشروعة، ولكن، بالنسبة للمشروع العربي والمشرقي، تظل تركيا عدواً، كما إسرائيل والسعودية والإخوان. وهذه قصة أخرى.