منذ أقل من أسبوع، بوشرت أعمال بناء مشروع «قرية مار مخايل». هذا المشروع ليس الأول من «نوعه»، سبقه مشروع «قرية الجميزة» وغيرها من المشاريع القائمة على بناء مجمعات سكنية «فاخرة». هذه المشاريع «تتلاعب» بذاكرة الأحياء، بحسب معماريين يُحذرون من تداعياتها التهجيرية للسكان وتحويل المناطق إلى ساحات للمضاربات العقارية لصالح فئة قليلة من المُستفيدين
منذ أيام، بدأت عملية هدم مبنى مصنع البيرة القديم في منطقة مار مخايل، تمهيداً لتشييد مشروع “مار مخايل فيلاج”. هذا المشروع العقاري الضخم، الذي يتضمن إنشاء شقق فخمة وفاخرة مرفقة بحدائق ومسابح (بحسب التصاميم) سيقوم على أنقاض المبنى الذي يعود إلى حقبة بداية الاستقلال.
من وجهة نظر معماريين متابعين للمشروع الجديد، يُعدّ مبنى مصنع البيرة تراثياً يستوجب الحفاظ على هويته والطابع الذي يُرسيه، “حتى لو لم يكن مصنفاً تراثياً وفق القوانين”، بحسب مصدر في إحدى اللجان السابقة في وزارة الثقافة.
يُقدّم المُستثمرون مشروعهم على أنه مُجمع سكني “يُقدّر الماضي”، في إشارة إلى الطابع التراثي لحي مار مخايل.
يقول المُهندس في الترميم مازن حيدر لـ “الأخبار”، إن الشركات العقارية باتت “تلعب” على مسألة الذاكرة و”النوستالجيا” الذي يؤويها المكان. ويعطي مثالاً عن مشاريع مشابهة كـ “جميزة فيلاج” وغيرها من المشاريع التي “تنبت” في الأحياء القديمة في بيروت. الانطلاق من هذا المدخل يُعدّ ضرورياً للتحذير من تداعيات “إسقاط” هذا النوع من المشاريع و”زرعها” في محيط لا يزال يحافظ على هويته التراثية. هذا التحذير يقوده معماريون ومهندسون مدنيون وناشطون في المجال المديني.
يصف حيدر منطقة مار مخايل بـ “الجزيرة المدينية” التي تُحيط بها أربعة طرقات، ويلفت إلى أن مبنى مصنع البيرة من “المعالم الأساسية” من المنطقة التي لا تزال تحافظ على هويتها القديمة المُتصلة بحقبة بداية الاستقلال: “ثكنة محمد ناصر أكبر إثبات على أن المنطقة لديها ملامح تراثية”.
يشرح المصدر أن المجمع السكني هو عبارة عن “مشروع استثماري لذوي الدخل المرتفع”، لافتاً إلى أن مار مخايل تُعدّ منطقة “مُستقرّة سكنياً”، في إشارة إلى أن أهلها لا يزالون يقطنونها، بخلاف بقية الأحياء التي هجرها أهلها.
يُقدّم المُستثمرون
مشروعهم على أنه مُجمع سكني «يُقدّر الماضي»
ويُضيف المصدر: “لا تزال المنطقة تحوي على دكاكين ومتاجر صغيرة”. ينطلق من هذا “السرد” ليُشير إلى أن المشروع “سيُغيّر مار مخايل نهائياً”، وسيحولها إلى ساحة للاستثمار العقاري “تماماً كما حصل في الأشرفية”.
تقول الباحثة المدينية نادين بكداش لـ “الأخبار” إن الدراسات الميدانية تُشير إلى التهديد الجدي الذي يطال سكان المنطقة جرّاء مشاريع من هذا النوع، لتطرح مُشكلة غياب التخطيطات اللازمة لمعالجة مسألة السكن في هذه الأحياء، “ففي الوقت الذي نحن بحاجة إلى تأمين حق سكن للناس في بيروت، يسعى المعنيون لإرساء نمط تهجيرهم”. بحسب بكداش، وغيرها من المُطلعين، فإن هذه المشاريع ستؤدي حكماً إلى رفع أسعار العقارات في المنطقة ما يؤدي تدريجياً إلى “إخلاء” الناس لصالح المُستثمرين. وتسأل بكداش عن مسؤولية بلدية بيروت والمعنيين من نقابة المُهندسين ووزارة الثقافة وغيرهم، وعن دور هذه الجهات في الاهتمام بالرؤية المدينية للأحياء، لافتة إلى إمكانية اتخاذ البلدية موقفاً حاسماً من مسألة الإعمار في الأحياء ذات الطابع التراثي.
تُفيد المعطيات المُستقاة من وزارة الثقافة، أن المشروع لم يلحظ الدراسات المطلوبة لتحديد تداعياته وأثره في المحيط. وتكتفي المصادر في الوزارة بالقول إن “النقاش انتهى عند الحديث عن البديل الممكن اعتماده لترميم المبنى بشكل يُحافظ على طابعه”، ليُعطى المطوّر العقاري في ما بعد ضوءاً أخضر للمباشرة بالمشروع وهدم المبنى. في الواقع، الإشارة إلى المطورين العقاريين تأتي بوصفهم الطرف المُستفيد الأول من هذه التغيّرات. إذ ستساهم هذه المشاريع في تأجيج المُضاربات العقارية. وهنا، لا بد من الإشارة إلى قانون الإيجارات الجديد الذي يندرج ضمن مصلحة الشركات العقارية التي ستستغلّ ضعف المالك القديم الذي يُريد أن “يبيع” والمُستأجر القديم الذي سيتم تشريده من منزله الذي سكن فيه طوال عقود. لينشأ في المُحصّلة واقع “تهجير الناس”.
يقول حيدر إنه عند أواخر التسيعينيات، شهدت بعض المناطق في بيروت “هجمات” من قبل أصحاب النوادي الليلية. هذه “الهجمات”، استفاد منها المستثمرون عبر رفع أسعار العقارات في المنطقة. ويُعطي مثالاً عن شارع “مونو” الذي لم يعد مقصوداً من قبل رواد النوادي لكنه “بات له صيت يحفظ له قيمته العقارية”، لافتاً إلى أن عمليات استيلاء المُستثمرين تبدأ عبر “غزو” أصحاب المحلات “العصرية”، وهو ما حصل في منطقة مار مخايل التي شهدت مؤخراً “موضة” إنشاء مطاعم حديثة وغيرها. الحديث عن ضرورة الحفاظ على المبنى لا يقتصر على ناحية وجوب الحفاط على “التراث”، بقدر التحذير من التداعيات على التركيبة الاجتماعية والاقتصادية للمكان، وفق ما تقول بكداش التي تُشير إلى تأثير المشروع في “الاقتصادات الصغيرة” في المُحيط.
في الوقت الذي يتحجج فيه بعض المُستثمرين بمسألة “إنعاش” المنطقة اقتصادياً جراء هذه المشاريع، يقول بعض المُطلعين إن هذه الحجة غير دقيقة ذلك أن الناس الذين سيقطنون في المنطقة هم “مستهلكون انتقائيون ليس بالضرورة يفيدون الاقتصادات الصغيرة في الحي المجاور لهم، بل على العكس المُضاربات العقارية لن تسمح لأصحاب الدكاكين أن يستمروا في أعمالهم”.
من جهته، يختم حيدر بالقول إن هذه المشاريع تتلاعب بالذاكرة والمُستفيد الأول هو الشركات العقارية، منبهاً إلى ضرورة الحفاظ على التراث. ويُضيف في هذا الصدد: “التراث ليس محصوراً بالحقبة العثمانية وفق ما يُشاع”، لافتاً إلى أن تراث مبنى مصنع البيرة يتعلّق بحقبة ما بعد الانتداب، والمسّ بمعالم هذه الحقبة يعني عملياً عدم احترام حقبة “بدايات استقلال لبنان”.