يعيق كتابةَ المأساة العربية أن النحيب والعويل لا يزالان يملآن الأفق. ومن شروط كتابة المأساة أن يتوقف النحيب والعويل اللذان يصعب أن يتوقّفا فيما آلات القتل تعمل بأقصى السرعة والفعاليّة. فالستارة أُسدلت على السياسة، وما قد تولده من معنى، لكنها لم تُسدل على عنف يمعن في إحباط السياسة والمعنى بقدر إمعانه في إطلاق الألم.
لكنّ أمراً آخر يعطل كتابة المأساة هو طريقة سائدة في قراءتها لا يزال يحبذها الكتاب والمعنيون بالقراءة. وتفضي الطريقة هذه، إما عن حسن نية يشد أصحابه إلى تحليلات الزمن «الوطني» «الجميل»، وإما عن سوء نية يذهب بأصحابه إلى تقنيع الواقع بالإيديولوجيا حرصاً على هذا الواقع نفسه، إلى المضي في حجب الطائفية، علماً أن أمرها المستفحل غدا العنصر الذي يقرر أين تقيم الجماعات وكيف تُهجّر وماذا تفعل، وأي دول تذوي في المنطقة وأي دول تنشأ، وأي حدود ترسم وأي علاقات إقليمية أو دولية تنعقد؟
وكره الطائفية ليس إلا عند المغفلين سبباً كافياً لعدم رؤيتها وعدم الإقرار بها وعدم الدفاع عن ضحاياها حتى حين يكونون هم أنفسهم طائفيين. لكنّ هذا الكره سبب كاف لدى سواهم كي يجددوا إعلان قناعات ومواقف تُرضي الضمير والأخلاق كما تحاول الانسجام مع تصور إيجابي عن المستقبل، وإن كانت الأوهام لا تساور هؤلاء في ما خص الفعالية والتأثير.
فالسياسة اليوم، كائناً ما كان تعريفها، لم يبق منها الكثير، سيما وأن حيز الصراع بين «الشعب» و»النظام» ضاق وانكمش مع إخلاء «الشعب» مكانه لطوائفه وإثنياته مقابل إخلاء «النظام» مكانه لخليط من الميليشيات والعصابات والقرارات الإيرانية والروسية النافذة. والمنافسات الدولية التي قد يعول عليها، في ظروف أخرى، لاستعجال التسويات، إنما تطيل حروب التسوية في الظرف الذي نعيش وفي تعقيداته.
وما يتبقى راهناً أن طائفيتين راديكاليتين وحادتين تتنازعان منطقة المشرق وتهمشان على نحو متعاظم قضايا السياسة والحق التي تتمسك بها فئة يتزايد تآكلها وانحسارها كما تتزايد هجرة أبنائها وكفاءاتها.
فمن جهة، هناك مشروع يمعن في الاستئصال السياسي للسنة، في ظل مسميات كاذبة كالدفاع عن الحداثة والتنوير والتقدم، مروراً بمكافحة الإمبريالية، وصولاً إلى مقاومة إسرائيل. وحينما يقدم للإسرائيليين الراعي الكوني لهذا المشروع، أي فلاديمير بوتين، دبابةً غنمها منهم الجيش السوري في 1982، يصف أصحاب هذا المشروع البِصاق البوتيني على وجوههم بالشتوة المتوقعة.
ومن جهة، هناك مشروع لا يكن إلا الكراهية والموت للبشر عموماً، وللأقليات خصوصاً، ولكل ما هو حديث ومضيء في عالمنا. ولئن كانت وحشية «داعش» أبرز تجليات هذا المشروع، فإن وحشية الأنظمة والميليشيات والقوى الإقليمية والدولية حيال السكان المحليين، بذريعة «الحرب على الإرهاب»، إنما تمعن في تمكين الوحشية الأولى وتوسيع قاعدتها وشعبيتها.
أما المشروعان فليسا كذلك إلا عَرَضاَ، إذ هما لا يملكان من مواصفات الكلمة إلا تلك السلبية التي لا تفضي إلى بناء شيء، حتى لو كان دسكرة. وأما الأقلية الصغرى، ومن حفرتها التي دفعها إليها المشروعان، فما عليها إلا أن تمضي في إطلاق النار بالاتجاهين، علماً أن التحام الطرفين القاتلين ماضٍ في اعتصارها وفي سد منافذ الهواء عن حفرتها الصغيرة التي تقاتل منها دفاعاً عن العالم الكبير.