IMLebanon

وعود القيصر

يُلام الجناح الممانع في اليسار العربي على تعليقه الآمال على السياسات الروسية المتعلقة بالمنطقة العربية وبـ «استعادة التوازن العالمي» المختل، بحسبه، لمصلحة الغرب والولايات المتحدة.

ويأخذ اللائمون المنتمون في الغالب إلى تيارات اكثر قرباً من اليسار الأوروبي أو ذاك المسمى بـ»الجديد»، على زملائهم الممانعين عدم انتباههم إلى أن روسيا في ظل بوتين تختلف جذرياً عنها في أيام الحكم السوفياتي وأن في مقابل انعدام المشروع المنطوي على أي قيم عند الأولى، كانت الثانية تحمل مشروعاً عالمياً يدعو إلى العدالة وتغيير المجتمع لمصلحة الأفقر والأكثر تهميشاً وإنتاجاً في الوقت ذاته. وأن الاتحاد السوفياتي باستيحائه الماركسية كمنهج في السياسة والسلطة، إنما كرس انتماءه إلى العصر وأدخل روسيا والدول الأخرى التي شكلت معها الاتحاد، في الحداثة بمنطقها وقيمها.

الواقع يخالف هذا التشخيص. ذلك أن أمراضاً مبكرة ضربت الثورة البلشفية كان من أولها القضاء على طبقة المثقفين اليساريين والمشاركين في انتفاضة أكتوبر 1917، والأكثر احتكاكاً بالثقافة الغربية. لاحظ ليون تروتسكي مبكراً هذا التوجه العام رغم مشاركته النشطة في تأسيس الجيش الأحمر وأعمال القمع الأولى التي طاولت معارضي الحزب البلشفي. ثم انكب على تدوين صعود منافسه جوزف ستالين في كتابه «الثورة المغدورة» (أو «الثورة التي خانوها»). ثم فصّل اسحق دويتشر في كتابيه عن ستالين وتروتسكي هذه المرحلة ومعناها على آليات التغير التي كانت تعتمل داخل المجتمع الروسي أولاً والمجتمعات التي شكلت جمهوريات الاتحاد السوفياتي الأخرى ثانياً.

يؤدي البناء على نقد تروتسكي ودويتشر وغيرهما للشيوعية السوفياتية إلى إخراجها من حيز الماركسية بصيغتها الأولى وإلحاقها بأنظمة الاستبداد الآسيوي (أو «الأوراسي»، العبارة التي يحب بوتين استخدامها) كنظام بيروقراطي يخدم مجموعة لا تعكس مصالح العمال الصناعيين الذين لم يكونوا يشكلون سوى أقلية في المجتمع الروسي وقت الثورة.

الوسم البيروقراطي الستاليني الذي رافق الاتحاد السوفياتي حتى أيامه الأخيرة، رغم محاولات نيكيتا خروتشوف وميخائيل غورباتشوف التمرد عليه، عاد إلى الحياة مع دخول بوتين إلى الكرملين. في العمق، لا مشروع إنسانياً عند أصحاب الطريقة هذه في إدارة البلاد، ولا قيمَ تدافع عنها ولا همَّ يتجاوز همّ الإمساك بالسلطة والبقاء فيها وإقصاء كل الخصوم والمنافسين عنها. السياسة الخارجية الامبراطورية الجديدة هي لخدمة السياسة الداخلية الإقصائية. إذ لا يمكن تفسير الاندفاع الروسي إلى استعادة مناطق النفوذ السوفياتي القديم في أوكرانيا وآسيا الوسطى والشرق الأوسط بمعادلات استراتيجية أو حاجات اقتصادية ذات قيمة. وبالقدر الذي تفتقر روسيا إلى ما تقوله في مجال القيم والأفكار العالمية، تفتقر إلى السلع والخدمات والبضائع التي يمكن أن تجعل منها لاعباً اقتصادياً ذا أثر عالمي. هي اندفاعة لاستغلال الفراغ الذي ولده الانكفاء الأميركي المرجح أن يستمر إلى ما بعد نهاية ولاية باراك أوباما.

بهذا المعنى، يجوز فهم ترحيب اليسار الممانع العربي بالدور الروسي الجديد. لا أثر في موقف اليساريين الممانعين لاهتمام بقيم إنسانية عليا ولا حتى بجني فوائد مادية مباشرة من التدخل الروسي. بل إن ما يحمله الترحيب هذا الذي يصل حدود البهجة الطفولية الغامرة، يجد معناه الحقيقي في لقاء مهووسي السلطة ودعاة تحالف الأقليات وما شاكل من ادعاءات سياسية وفكرية «ديالكتيكية» لا قيمة لها إلا في عقول أصحابها.

لا شيء يقدمه «القيصر» بوتين غير وعود ببقاء الطغاة في أماكنهم مع إمكان استعانة بالحالمين باستعادة دور ومكانة ولو على أشلاء السوريين. أما على المدى الأبعد فلن يبقى في الحلق إلا طعم المرارة والخيبة.