تقول الحكاية إن بناء «تخشيبة» في مدينة بيروت يحتاج لجولة بيروقراطية طويلة قد تنتهي بعدم إعطاء الإذن. هذا ما يحصل في النظام، أما عندما يستحيل الأمر «واقعاً»، فيصبح من الطبيعي أن يمرّ بناء عملاق، بلا ضجيج، على أرض مسجّلة في الدوائر العقارية على أنها ملك خاص. هذه حكاية «الأمر الواقع»، التي يصحّ تطبيقها على مطعم «البريدج» وشركة «سلامة للسيراميك» وكسر الخنسا ونادي السد، وهي المؤسسات التي قامت تباعاً على أرضٍ هي ملك لبلدية برج البراجنة
قبل بضع سنوات، «نبت» مطعم «بريدج» عند بوابة منطقة الأوزاعي. بناء ضخم على مساحة تقدّر بآلاف الأمتار المربّعة، مع «منظر رائع يطلّ على نادي الغولف وعلى مشاهد خلابة من الخضرة التي تحفّز على الإسترخاء».
هذا ما تقوله النبذة التعريفية عن المعطم المصنّف «5 نجوم»، لكن، ما لا تذكره تلك النبذة أن المطعم يقيم هناك «احتلالاً». على أرضٍ تعود «ملكيتها إلى بلدية برج البراجنة»، هذا ما يقوله نائب رئيس البلدية، زهير جلول، مستنداً إلى ورقة من السجل العقاري في بعبدا تثبت بأنّ «العقار الرقم 6794 والبالغة مساحته 21 ألف متر مربع هو ملك خاص للبلدية».
لكنها، تبقى مجرّد ورقة. فالملكية الخاصة للبلدية لم تلغِ شيئاً من الواقع، هناك، في العقار. فلا هي منعت بناء البريدج ولا إقامة مخازن شركة «سلامة للسيراميك» ولا نادي «السدّ» ولا «كسر الخنسا» ولا «نصف» محطة البنزين، المعروفة بين أبناء المنطقة بمحطة «بيت جعفر». لم تولد هذه المرافق على طريقة الليلة وضحاها. فعلى سبيل المثال، البريدج لم يسقط في «الباراشوت» واستفاق الناس في اليوم التالي ليجدوه، إنّما استغرق بناؤه سنوات، على عين القانون وصاحبة الملكية. وكذلك الأمر بالنسبة للبقية. أما كيف؟ فـ«بقوّة الأمر الواقع»، يجزم جلول، والمتابعون اليوم لملف الدعوى القضائية التي تقيمها البلدية ضدّ هؤلاء.
أمام هذا «الأمر الواقع»، لا قيمة لورقة الملكيّة تلك، فمفاعيلها تنتهي عند عتبة هذا «الأمر». ماذا تفيد ورقة إذا ما قرر أحد «واصل»، على ما يقول أحدهم في البلدية، بناء ناطحة سحاب؟ «لا شيء»، يجيب غالبية من هم في البلدية. هذه الأخيرة عاجزة عن اتخاذ قرار في شأن عقارها، لأنّ هناك «أشياء بدها تمرّ على البلدية غصب عنها»، ويقول متهكماً «بالقوة وبالمروّة بدو يقطع». هذا ما يسمونه «الأمر الواقع»، يعيد أحد الأعضاء التذكير بالمصطلح. ويشرح «وقت بنقول أمر واقع، يعني هناك من يساند. من يغطي. من هو واصل». بتعبير أوضح «فيه وراه حدا وما إجا من الهوا».
مهلاً، الحكاية لم تبدأ مع البريدج، إنما اكتملت مع الأخير، بحيث صارت المساحة مشغولة بالكامل. فلنبدأ من الأصل، ما قبل البريدج وسلامة، عندما كان هناك «ناصر» و«مظلوم» وتميم سليمان، صاحب نادي السد. يروي أحد أعضاء بلدية البراجنة بأنّه في «عام 2004، مع أول بلدية، قمنا بما يسمى إجراء إظهار الحدود، فتبين لنا أنّ هناك احتلالا في العقار 6794، وكان هناك معرض سيارات لشخص من عائلة مظلوم وجاء شخص اسمه تميم سليمان وأخذ الأرض منه وأقام عليها الهنغار الذي صار لنادي السدّ، وكان إلى جانبه أرض فارغة، أصبحت اليوم البريدج». يومها «واجهت البلدية إشكالات، وخصوصاً أن معظم عقارات المنطقة هناك كانت مشمولة ضمن مشروع أليسار، وعندما أتت البلدية لتطالب المحتلين بالخروج بدأت الإشكالية تتظهر، إذ إن جزءاً من العقار صار ضمن العقار 3908 (هي مساحة الأوزاعي) وسليمان يملك على طريقة الموجودين هناك عددا من الأسهم، وقد رأى أنّه يستطيع وضع يده هنا». بحسب رواية البلدية، هكذا وُجد سليمان هناك. لم تستطع البلدية فعل شيء حيال هذا الأمر، ولذلك عمدت «بما أنه أمر واقع، طالبناه بدفع بدل إشغال». كرّت السبحة، ولم يعد نادي السد وحيداً وجاؤوا كلهم بحكم الأمر الواقع، وإن اختلفت حكاياتهم.
تميم سليمان الذي صار «يؤجر» مساحات هناك، يقول بأنّه «كان هناك ملك خاص لبلدية البرج ولم يعد، بعد مشروع أليسار ومرسوم الضم والفرز، فهذه المساحة صارت فايتة بمشروع أليسار»، لكن، ما علاقتك بمشروع أليسار؟ يجيب «أنا أملك أسهماً هنا. لكن، في الرأي القانوني «كل ما له علاقة بمشروع أليسار هو ملك عام لذلك لا يحق التصرف فيه لا بيعاً ولا شراء»، ولكن، في حالة سليمان، فهو يملك «أسهماً». أين؟ في العقار «3908». ولمن لا يعرف العقار الأخير، فهو «كل الأوزاعي».
أما ما يجري الحديث عنه، فهو العقار 6794، وهو «ملك بلدي خاص»، تشدّد البلدية على ذلك، مشيرة إلى أنّها أقامت «دعوى قضائية ادعينا فيها على كل الشاغلين للعقار». كل الشاغلين تعني أيضاً «البريدج» (المالك شركة شحوري) وكسر الخنسا، ولو كانا يستأجران الأرض. ففي حالة الأول، فهو «مستأجر الأرض من سليمان وأوراقنا قانونية ولا علاقة لنا بما يجري، ولكن نحن نعرف بان سليمان يملك أسهماً هنا». يستطرد هذا الأخير الذي يرفض ذكر اسمه «لا شيء يعيد الأمور إلى الوراء، فهذا المطعم كلف ملايين الدولارات، يمكن كانوا رح يعملوه مكب، لأنهم ما فيهم يعملوا شي متل هالـview (المنظر)».
هذا «أمر واقع» أيضاً. ولكن، اللافت أن العودة دائماً لمشروع أليسار. فلنفرض أنّ عقار البلدية صار ضمن مشروع أليسار؟ هل تصبح الإقامة فيه مسموحا بها، وهو الذي يصنف ملكا عاما؟ كيف يحصل ذلك؟ أضف إلى ذلك، هل صار «الملك» أصلاً للمشروع هناك؟ وإن فرضنا ان المرسوم نافذ، فماذا عن التنفيذ نفسه؟ هل صار واقعاً؟
كل هذه الأسئلة يختصرها وكيل شركة «سلامة للسيراميك» المحامي حسين طنانة بردّ واحد، وهو أنّ «الأرض كانت لبلدية البرج ولم تعد كذلك ونحن هناك بصفتنا مالكين في العقار 3908 وشاغلين أيضاً». يستفيض الوكيل القانوني في الحديث عن كيفية انتقال هذه الملكية «إلى مشروع أليسار بعد مشروع الضم والفرز، حيث انّه بعد عملية الضم، كان مشروع الفرز الذي أوقفه الخلاف السياسي، ولكن ذلك لا يمنع أنّ هناك عقارات قد ضمّت الى مشروع أليسار وهي 3907 و3908 وهذا العقار 6794 وأصبحت عقارا واحدا، وصاحب شركة سلامة يملك أسهماً في العقار 3908 وموجود هنا بصفتين: المالك والشاغل، وله حقوق مكتسبة بالتالي بحسب ما ينص عليه قانون مشروع أليسار، إذ يقرّ بهذه الحقوق للشاغلين والمالكين والمحتلين». على هذا الأساس، يجزم الوكيل بمعادلة أنّ من يملك أسهماً في العقار 3908، وهو للمناسبة مساحة كل الأوزاعي، يحق له أن «يتملّك» أينما كان، ولو على أرض الـ6794 بما أنّ «العقار بات واحداً». أو بتعبير أدق، «وضع اليد» على ما يقول أحد المهندسين ضمن مشروع أليسار. يتحدث هذا الأخير عن أنّ «العقار 6794 مسجل في الدوائر العقارية كملك خاص لبلدية البرج، وإن كان خاضعاً لمشروع الضم والفرز، لكن هذا لا يعني أنّه إذا كان خاضعاً أن البلدية باتت خارجاً، فالضم والفرز لم ينته أصلاً والقاضي العقاري يحدّد مصيره»، مضيفاً «أنّه اذا قرر القاضي العقاري المصير، فنعم الأولوية للبلدية، مالكته». ومن يشغلون العقار اليوم؟ يضيف المهندس «لا يحق لهم أصلاً البقاء هناك، وهذا حكم أمر واقع، يعني إذ عندي أسهم بـ3908 بحط إيدي مطرح ما بدي؟». قد يصلح ذلك في المنطقة القائمة تحت خانة الامر الواقع، ولكن، في القانون «ما بيقطع»، يقول المحامي بلال الحسيني، مؤكداً أنّه «طالما أن الإشغال ليس بموجب عقد أو اتفاق مبرم بين طرفين فهو إشغال من دون مسوّغ شرعي». لكن، شتان ما بين الواقع والقانون.
مشروع أليسار: التوافق السياسي أولاً
توقف مشروع «أليسار» منذ سنوات ولا يزال. فكل ما فعله هذا المشروع هو إنجاز «إحصاءات بالموجودين في حيز المشروع والمحتلين والحقوق المختلسة، أي جردة عن الواقع الموجود على الأرض وإيداعه لدى الدولة»، يقول أحد المهندسين في المشروع. ما عدا ذلك، حصلت «بعض عمليات الإخلاء واستملاك بعض الأراضي ودفع بعض تعويضات الإخلاءات، ولكنها بقيت استنسابية»، يتابع. حدث ذلك، قبل سنوات، حتى إنه في عام 2008، أعيد الحديث عن مشروع أليسار، لكنه سرعان ما توقف الأمر عند اجتماع رئيس المجلس النيابي نبيه بري ورئيس الحكومة السابق سعد الحريري.
اليوم، هناك مطالبات بإعادة وضع المشروع على السكة، فدونه مشوار طويل يبدأ بإصدار قرار بالإخلاء ومن ثم تنفيذ مشروعي الضم والفرز». لكن، كل ذلك مستحيل، أولاً بسبب «الحاجة إلى قرار سياسي من الأطراف الثلاثة: تيار المستقبل وحزب الله وحركة أمل». أما السبب الثاني «فهو طفرة البناء العشوائي، فكيف سيتم التعاطي مع المحتلين والشاغلين؟ وماذا عن التعويضات؟».