في ظل إرتفاع الدين العام وتراجع النشاط الإقتصادي، تظهر إلى العلن أكثر من أي وقت مضى أهمّية خفض العجز في الموازنة. وبغضّ النظر عن المسار السياسي لقانون الإنتخاب وحتى الإنتخابات النيابية، هناك إلزامية لخفض هذا العجز. فما هي الإجراءات لتحقيق هذا الأمر؟
بحسب أرقام وزارة المال، بلغت قيمة العجز المُتراكم منذ العام 2004 حتى العام 2016، 40.7 مليار دولار أميركي (58% من إجمالي الدين العام).
وتُشير الحسابات الى أن العجز في العام 2017 سيتجاوز الـ 7 مليار دولار أميركي بحكم أن العجز المُتوقّع في مشروع موازنة العام 2017 والبالغ 4.8 مليار دولار أميركي هو رقم غير جدّي للأسباب التالية:
أولًا – لم يتمّ إدراج كلفة سلسلة الرتب والرواتب في مشروع موازنة العام 2017 والبالغة 800 مليون دولار أميركي (رفع الحدّ الأدنى للأجور).
ثانيًا – لم يتمّ إدراج كلفة الخطّة الإنقاذية للكهرباء والبالغة بحدود الـ 850 مليون دولار أميركي.
ثالثًا – التأخير الحاصل في إقرار مشروع موازنة العام 2017 والذي يُقلّل حكمًا المداخيل بما يوازي نصف المداخيل المُتوقّعة في المشروع.
رابعًا – تبقى نسبة النمو الإقتصادي (بحدود الـ 2% من 50 مليار دولار أميركي) أقلّ بكثير من نسبة الفوائد على الديّن العام (بحدود الـ 7% من 77 مليار دولار أميركي).
من هذا المُنطلقّ، تظهر إلى العلن أهمية لجم العجز في الموازنة والذي يُشكّل السبيل الوحيد للجم الدين العام الذي تخطّت نسبته الـ 150% من الناتج المحلّي الإجمالي للدوّلة اللبنانية.
إن إجراءات خفض العجز يُمكن تقسيمها إلى قسمين: إجراءات على المدى القصير (إجراءات مؤقّتة) وإجراءات على المدى البعيد (إصلاحات هيكلية).
على هذا الصعيد، تأتي تجربة نيوزيلندا في خفض العجز كحالة مدرسية يُمكن أخذ الدروس منها.
فقد قامت الحكومة النيوزيلندية بخفض العجز عدّة نقاط (نسبة العجز إلى الناتج المحلّي الإجمالي) خلال عدّة سنوات ويعود الفضل إلى الإجراءات التي إتخذتها الحكومة في البرامج الإجتماعية والتوظيف العام، كما والإصلاحات الهيكلية التي قامت بها، وضع قواعد ترشيد مالية وشفافية في الإدارة المالية. أضف إلى ذلك، أصبحت آلية وضع الموازنة أكثر شفافية وهذا ما خفّض الإنفاق العام.
خفض الإنفاق العام أظهر إنقسامًا بين الإقتصاديين، فمنهم من يعتبر أن خفض الإنفاق يخلق ركودا إقتصاديا. إلا أن دراسة لصندوق النقد الدولي أُجريت على العديد من الدوّل التي خفّضت إنفاقها العام، أظهرت أن خفض الإنفاق لا يخلق بالضرورة ركودا إقتصاديا، بل على العكس يُعطي ثقة أكبر للمُستثمرين وبالتالي يزيد من الإستثمارات الخاصة من ناحية غياب المنافسة بين القطاعين العام والخاص على سوق الأموال. من هذا المُنطلق، تأتي سياسة خفض الإنفاق كإجراء أساسي للجم العجز في الموازنة.
الإنفاق العام في لبنان يتراوح بين 19% و23% وذلك منذ العام 2004 وحتى نهاية العام 2016. هذا الإرتفاع في الإنفاق العام لم يواكبه أي تطورّ إجتماعي وحتى على الصعيد الإقتصادي بإستثناء الأعوام 2007-2010. فمُعظم الخدمات الإجتماعية تراوح مكانها، حتى أن بعضها تراجع نسبة إلى العام 2004 على مثال ملف النفايات. أمّا في الدول المُتطوّرة وعلى الرغم من إرتفاع الإنفاق العام على نفس الفترة، شهدت مُجتمعات هذه الدول تطورا إجتماعيا وإقتصاديا إيجابيا.
وبالنظر إلى الإنفاق العام في لبنان، نرى أن مُعظم هذا الإنفاق محصور في بندين: بند الأجور والتعويضات وبند خدمة الدين العام. وبإعتقادنا، دخل لبنان مرحلة الحلقة المُفرغة مع زيادة تلقائية في هذين البندين مع كل زيادة في الناتج المحلّي الإجمالي!
إن خفض الإنفاق العام يمرّ حتما بعدد من الإجراءات التي تمنع تآكل المالية العامّة وعلى رأسها:
أولًا – خفض الإنفاق على المدى القصير ويتضمّن إجراءات مؤقتة وإجراءات بنّاءة.
الإجراءات المؤقتة تحوي خفضا إجماليا لكل بنود الموازنة بنسبة «مقطوعة»، خفض المناقصات العامّة، وتجميد الأجور لمدّة سنتين.
أمّا الإجراءات البنّاءة فتحوي على خفض عدد العاملين في القطاع العام من خلال تفادي توظيف أشخاص بدلًا من الأشخاص الذين يبلغون سنّ التقاعد، والقضاء على الإنفاق غير المُجدي (هدر وفساد).
ثانيًا – الإصلاحات الهيكلية للإنفاق العام من خلال إعادة هيكلة هذا الإنفاق بالعمق وتوزيعه بما يضمن إستدامة خفضه. هذا الأمر يفرض إعادة تقييم مُعمّقة للقطاع العام والسياسات المُتبعّة فيه مما يعني وضع موازنة إبتداءً من الصفر.
إن تقييم القطاع العام يعني تحديد حقل تدخّل الدولة في الدورة الإقتصادية والخدمات التي تُقدّمها مثل الكهرباء والبريد والإتصالات وغيرها من القطاعات التي تحوي على مشاريع من نوع «الفيل الأبيض». الجدير بالذكر أن الفيل الأبيض هو تعبير إقتصادي يدلّ على المشاريع التي تستهلك الكثير من المال ولا جدوى فعلية منها.
أيضًا يأتي تقييم الأداء الإداري للدولة ووزاراتها ومؤسساتها على رأس الأمور الواجب تقييمها. كما تفرض إعادة التقييم هذه، إعادة النظر بالمساعدات الإجتماعية التي تقدّمها الدولة للمواطن وقياس مدى فعّاليتها.
ثالثًا – الإصلاحات المؤسساتية والتي تتضمّن تقييم الإدارة وموظّفيها على أساس تحقيق الأهداف الموضوعة في بداية كل عام، وتحسين آلية وضع الموازنة العامّة لتتضمّن المزيد من الفعّالية والشفافية.
إن هذه الإجراءات كفيلة بلجم العجز في الموازنة العامة وإعادة التوازن إلى المالية العامة من خلال خلق فائض أوّلي أكبر من قيمة خدّمة الدين العام مما يعني عودة الإنتظام المالي للدوّلة وبالتالي، خفض العجز ومعه الدين العام. وكنتيجة لخفض هذا الأخير تنخفض خدمة الدين العام بما يعني خفضا إضافيا في العجز وهكذا دواليك.
كل ما سبق ذكره من خطوات يبقى رهينة إرادة الطبقة السياسية التي إذا ما أرادت تستطيع أن تطبّقها وبالتالي، يحصل لبنان على إستقلاله المالي من جديد.