اكتشفت السعودية أنّ تسوية 2016 التي جاءت بالعماد ميشال عون إلى رئاسة الجمهورية والرئيس سعد الحريري إلى رئاسة الحكومة ليست سوى صفقة استطاع المحور الإيراني إمرارها بنجاح للإمساك بالقرار. فالوعودُ بالحوار والانفتاح داخلياً والتوازن والحياد إقليمياً كانت للتغطية لا أكثر. ولذلك، فجأة، باشرت السعودية ورشة «التنقيب» عن 14 آذار (السابقة).
عندما وافقت السعودية على تسوية 2016، هل كانت مقتنعة بأنّ محورَ إيران لن يستغلّها للانقضاض على السلطة و«قضم» القرار؟ وهل أدّت الاتصالات، في تلك الفترة، بين الرياض وطهران، إلى طمأنة السعوديين، فوافقوا على الخطوة وأعطوا الضوءَ الأخضر للحريري لكي يدخل فيها؟
وإلى أيّ حدّ، ساهم الحريري نفسُه في إمرار التسوية لدى السعوديين، بعد تلقّيه تطمينات من عون بأنّ العهد سيلتزم التوازن إقليمياً، وسيكرِّس قوة الدولة فوق أيّ قوة أخرى في لبنان، وسيتعاطى مع الملف السوري بمعايير غير استفزازية؟
في تلك الفترة، كان السعوديون في ذروة مقاطعتهم لبنان. فأرسل عون مبعوثيه إلى الرياض معلناً رغبته في التطبيع، إذا وصل إلى الرئاسة. وفعلاً، هو افتتح عهده بزيارة السعودية وحظي بتكريم استثنائي.
في تلك الفترة، ساد اعتقاد بأنّ التسوية قريبة في سوريا وأنها ستؤدّي إلى رحيل الرئيس بشار الأسد لمصلحة حكومة توافقية، وأنّ إعادة البناء ستنطلق.
وارتأى الحريري أنها فرصة ليعود من «منفاه» القسري، رئيساً للحكومة وقائداً للسنّة على رأس تيار «المستقبل». ولكي يستعيد طاقاته المالية التي تراجعت، يمكنه المشاركة على نطاق واسع- كرجل أعمال- في إعادة إعمار سوريا. ولهذه الغاية، بدت الثنائية الأفضل له هي تلك التي تضمُه والنائب سليمان فرنجية – الحليف الأقرب للأسد.
بدأ الحريري تسويق فكرة انتخاب فرنجية في السعودية فلقي الترحيب. وبالتأكيد، يدعم «حزب الله» هذا الخيار. لكنّ عون أسقط هذا الخيار بإصراره على المعركة. ولم يرغب «الحزب» في إحراجه منعاً لإخراجه.
ووجد الدكتور سمير جعجع أنه بين خيارَين: السيّئ والأسوأ، فاختار صدمة التفاهم مع عون. وقال يومذاك: «فرنجية سوري أصلي وأما عون فهو سوري «تايواني»! واستمرّ النائب سامي الجميل، ومعه آخرون، رافضاً مبدأ انتخاب رئيس من 8 آذار.
المسار الذي يسلكه العهد وحكومته أثبت هواجس الخائفين. فهناك اتجاهٌ يتنامى سريعاً نحو محور طهران: تطبيع مع الأسد وسيطرة «حزب الله» على القرار.
حتى اليوم، التزم الحريري تعهداته على المستوى السنّي متجاوِزاً اعتراض كوادر «مستقبلية» بارزة، ووفّر التغطية الكاملة لنهج الحكومة. ولكن، لا يبدو أنّ المحور الآخر سيلاقيه إلى منتصف الطريق. وواضح أنّ «الحزب» يترك لقوى سياسية أن تحصِّل المكاسب الصغيرة في الصفقات والتعيينات، تاركاً لنفسه الحقّ الحصري في إدارة الملفات الاستراتيجية.
ويراهن «الحزب» على أنّ تحالف المصالح بين وزراء الحريري و«التيار الوطني الحرّ» سيُبقي الجميع مُنشَغِلين، فيما «القوات» معترضة لكنها عاجزة عن التعطيل، وعون يتفرّج تاركاً اللعبة على مداها. وأما الجميل ففي موقع الاعتراض الكامل من الخارج.
لقد أَحرج الوزير جبران باسيل «شريكه» الحريري بلقاء نظيره السوري وليد المعلم، مع أنّ زيارات وزراء «أمل» و«الحزب» و«التيار» لسوريا لا تقلّ أهمية عن لقاء المعلم. لكنّ اللقاء جاء «فاقعاً» في نيويورك، فيما المحور السعودي كله يقاطع النظام السوري وأركانه.
وعلى الأرجح، سمع الحريري انتقادات سعودية حادّة للقاء باسيل – المعلم، قبل أن يطلق العنان لتصعيده من خلال بيان «المستقبل». وفي أيّ حال، كانت تكفيه إشارة سعودية، لأنّ الوزير ثامر السبهان، خلال زيارته بيروت، كان سبّاقاً في وضع حلفاء الرياض أمام خيار وحيد: واجِهوا «حزب الله»!
إذاً، جاءت دعوة السعودية لأركان 14 آذار مترافقةً مع نضوج أجواء جديدة في بيروت يجدر التوقف عندها:
1- صحيح أنّ الحريري مرتاح في «شراكة المصلحة» مع «التيار» من خلال باسيل، لكنه بدأ يتململ من المبالغة في الاندفاع نحو دمشق وطهران.
2- يزداد استياءُ جعجع من انزلاق «التيار» خارج وثيقة معراب، ومن شراكة الحريري مع «التيار». ولذلك، تشعر «القوات» غالباً بأنها وحيدة في داخل مجلس الوزراء.
3- يراهن الجميل على أنّ «التركيبة السلطوية» ستسقط، لأنّ هناك مَن لا يستطيع تحمّلها لا داخلياً ولا عربياً ولا دولياً.
ولذلك، يعتقد البعض أنّ توقيت المسعى السعودي لإعادة الروح إلى قوى 14 آذار، ومعها النائب وليد جنبلاط و«المستقلّين»، ربما يناسب الحريري وجعجع، لأنه يحلّ المشكلة الناتجة عن الانزلاق في الصفقة، وقد يسهّل معالجة إشكالات «المستقبل» مع اللواء أشرف ريفي. كما أنها فرصة ليثبت الجميل أنّ خياره الرافض الصفقة هو في مكانه الصحيح.
ولكن، في مقابل هذا الارتياح، هناك حسابات للبعض تدفعه إلى الخوف من المواجهة الجديدة التي تدعوه السعودية إلى خوضها:
– الحريري لا يريد التطبيع مع الأسد، لكنه لا يحبّ المغامرة بفقدان مكاسبه المحقّقة داخل الحكومة مع باسيل، ولا يحبّ المغامرة بخسارة الحكومة ورئاستها، وربما خسارة كل ما حقّقه منذ عودته إلى لبنان.
– جعجع والجميل مرتاحان الى وجود قوة عربية داعمة هي السعودية، في وجه الأسد وإيران، لكنهما يحاذران انغماس لبنان في نزاع المحاور الإقليمية.
لذلك، يذهب الذاهبون اليوم إلى المملكة مرتاحين إلى أنهم مدعومون عربياً، لكنهم قلقون إزاء التبعات في الوقت نفسه. فقد اختبروا جيداً نماذج المواجهات وأكلافها. وإذا كانت المواجهة المرتقبة شبيهة بالمواجهات الفاشلة السابقة، فالأحرى أن يوفّر هذا الفريق عن نفسه عناء المغامرة.