فُجع المجتمع اللبناني بصدمة من العيار الثقيل على أثر كشف النقاب عن شبكة دعارة تتعاطى الإتجار بالبشر وأبشع انواع التعذيب، وكالعادة تعلو صرخات الاستهجان والاستنكار لفترة من الزمن وتخمد بعدها تاركة المجال أمام عصابات جديدة وقوادين جدد ينشطون داخل المجتمع اللبناني بلا حسيب أو رقيب.
فنحن اعتدنا على لعب دور النعامة التي تدفن رأسها في الرمال ظنّاً منها أنّها تتفادى الخطر. فالجميع يعرف أنّ الدعارة منتشرة ومعها المخدرات بمقدار كبير في لبنان وتحوّلت نوعاً من الاتجار بالبشر والقاصرات وعلى أعين الجميع، وتحوّل القوّادون مافياتٍ أقوى من الدولة أحياناً عدة، يؤلفون شبكات ومحسوبيات ويحقّقون الأرباح الطائلة على حساب سمعة لبنان في مجال حقوق الإنسان، وعلى حساب حقوق العاملات في هذا المجال الإنسانية والصحية والنفسية.
والمؤسف أننا نُصرّ على تمثيل دور العفّة علناً في حين تتآكلنا المشكلات الداخلية بنحوٍ رهيب، وأتذكّر هنا بندَ تشريع البغاء الذي كنتُ قد اقترحته لدى تقديم ورقة اقتراحات التمويل لمناقشة موازنات 2011 و2012 وعمّمتها على جميع الوزراء والنواب، وأذكر أيضاً أنّ القيامة قامت ولم تقعد على بند تشريع البغاء وتمّ التعامل به باستخفاف و«تنكيت» سمج، وكأنّ هذه المهنة غير موجودة في لبنان، وكأنّ ما اقترحته هو محض خيال لا علاقة له بالواقع.
وأودّ إعادة نشر هذا الاقتراح تحديداً لأذكّر كم فوّتنا فرصاً حقيقية لمعالجة آفات وتنظيم المجتمع وتفادي الوقوع في فضائح على شاكلة ما تمّ في الأمس:
تشريع البغاء وترخيص مراكز وفنادق مع الحفاظ على حقوق الإنسان وفرض ضرائب مرتفعة على هذا النوع من الأعمال. حيث إنّ مهنة البغاء مزدهرة في لبنان شئنا أم أبينا، إلّا أنّ قوننتها تسمح للدولة أن تمارس مراقبة فاعلة لمحاربة التجاوزات والاستغلال وضمان التقيّد بالشروط الصحية وعدم تحوّلها مهنة إتجار بالبشر والقاصرين كما هو حاصل اليوم. والسماح بفنادق مرخّصة على الطريقة الألمانية حيث يتمّ ضبط هذا العمل وإلغاء دور القوادين.
هذا الاقتراح البسيط يحارب في الدرجة الأولى عمل القوادين ويُخضع المهنة المنتشرة لسلطة رقابية لديها الحق بفرض شروط على غرار كلّ الدول الأوروبية، كما يوفّر للخزينة مداخيل غير قليلة.
فإبقاء الفوضى المنظمة في هذا المضمار، بالاضافة الى تشابك الصلاحيات وتداخلها يُسهّل الإتجار بالبشر ويحوّل المهنة نوعاً من الاستعباد في القرن الواحد والعشرين، وخصوصاً أنّ التجارب أثبتت أن من المستحيل إلغاء هذا النشاط من المجتمعات إلغاءً تاماً، وما حصل في الأمس القريب هو أكبر دليل على أنّ غياب التنظيم سمح لوحوش من القوادين بممارسة أبشع أنواع الممارسات.
والسؤال اليوم كيف تمّ التعامي عن ممارسات هذه الشبكة في هذه المنطقة المعروفة بنشاطها، وكيف تمّ إخفاء هذه الممارسات كلّ هذه المدة الزمنية؟ إنّ الموضوع يتعدّى كونه جريمة يقوم بها القوادون فقط، بل يجب أن يفتح الباب واسعاً أمام التحقيق مع كلّ مَن تواطأ وستّر على الموضوع. فكيف يمكن أن تعمل هذه الشبكة بهذه الوقاحة في منطقة معروفة بأوكارها من دون ملاحظة أو ملاحقة القوى الأمنية، وهنا اعود الى موضوع قديم جديد وهو الصلاحيات.
فحتى اليوم تبقى الصلاحيات في هذا المجال غير واضحة ومشتّتة بين الأجهزة الأمنية، فحين كنت وزيراً للسياحة أوعزت الى الشرطة السياحية ملاحقة هذا الموضوع وملف المخدرات في بعض علب الليل، لأكتشف لاحقاً أنّ وزارة السياحة لا تملك الصلاحية بإصدار هذا الأمر، بل إنّ الموضوع يعود الى الشرطة القضائية، ومن الملفت للنظر أنّ الجميع لا يريدون وضوح الصلاحيات لأسباب معروفة.
يجب أن لا تمرّ مجدّداً جريمة بهذا الشكل «مرور الكرام»، بل يجب أن يُفتح التحقيق الجدي لمعرفة كلّ الملابسات والمتورّطين، لكي لا تستمرّ هذه الأوكار في انتهاك حقوق الإنسان وتحقيق أرباح خيالية على حساب هيبة الدولة. وهنا أريد أن أؤكّد أنّ من شبه المستحيل أن لا تكون هذه الأوكار تتمتع بحماية «رسمية»، لأنّ هذه المنطقة مراقبة أقله بدوريات يومية على أشكالها وأنواعها.
فرض التنظيم والقوننة كما كنا قد اقترحنا سابقاً، كما يحصل في الدول الأوروبية، خصوصاً أنّ لبنان قبل السبعينات قدّم تجربة متقدمة في هذا المجال حيث كان للمهنة أصولها وقوانينها، وكانت بيوت البغاء محصورة في مناطق معيّنة ضمن شروط مفروضة من وزارتي الصحة والداخلية، التي نظّمتها، بحيث منحت التراخيص لفتح بيوت الدعارة شرط أن تكون غير مخالفة للشروط الصحية، أي أنّ الفتيات يتمتّعن بصحة جيّدة ولسن مصابات بأمراض معدية، والفتاة المرخص لها كانت تحمل بطاقة صحية تعرّف عنها بحيث تخضع للفحوص الطبية مرّة كلّ 15 يوماً وتملك الحقوق لضمان عدم الاستغلال.
فهل سنجد آذاناً سامعة وعقولاً منفتحة اليوم لتقوم بهذا الإصلاح المطلوب؟ وهل سنتوقف عن التعامي عن هذا الواقع المنتشر ونتّخذ التدابير الجذرية لمعالجته؟ نحتاج اليوم الى البدء بعملية الإصلاح الواقعي والحقيقي ومحاسبة كلّ مَن يعرقل هذا الإصلاح، فلبنان لم يعد يتحمّل الاستمرار في هذه الحال من الفوضى المنظمة، ولم يعد يتحمّل غياب المحاسبة في الفضائح التي تصدم المجتمع اللبناني يومياً. ويجب إقفال أبواب الاستغلال والرشوة، فالتشريع هو الطريقة الوحيدة لإقفال كلّ هذه الأبواب.
وأخيراً أوّد أن أسأل هل المطلوب اليوم معاقبة القوادين و»الحرّاس» وأصحاب الفنادق الخ…. أو مطلوب ايضاً معاقبة كلّ مسؤول أمني وسياسي لم يقم بواجبه كلّ هذه الفترة، ولنذكّر بعضنا ستنتهي القصة كالعادة ويُعاقب الضعيف ويُترك المسؤول المُرتَشي وتتحوّل هذه القصة وتُضاف الى قصص كواليس بيروت أو ربما «كواليس المعاملتين»، ويختفي المُقَصِّر وتعود حليمة الى عاداتها القديمة في منطقة جديدة وضحايا جدد.