على مدى خمسةٍ وعشرين عاماً تحوّل سعر صرف الليرة الثابت الى نوع من المقدسات. أيقونة اختُصر فيها «نجاح» الاقتصاد، ودخل سعر الصرف في مصاف التابو (المحرّمات) الذي لا يجوز خرقه.
لا اعتقد انّ الشعب اللبناني، خصوصا المنتجين منهم في القطاع الحقيقي، يريدون لليرتهم ان تتهاوى. لا احد سيتملكّه الحبور وهو يرى الاجور تتآكل بسبب التضخم، والمدخرات تفقد قيمتها ان كودائع او كتعويضات نهاية الخدمة او المعاشات التقاعدية. لا احد يريد ذلك ولكن لا احد يضمن ان تجربة 1984 لن تتكرّر.
خلال اعوام 84-92 اختصر انهيار سعر الصرف الآم الحروب ودمار البلد. فماذا تختصر مخاطر اليوم؟
عادت الدولة منذ العام 1990 وحولها تتناسل الأزمات من انهيار مشروع السلام اولاًَ، الى أزمة مضيق هرمز اخيراً، مروراً بكل اثار الربيع العربي. فماذا فعلنا لحماية مناعة بلدنا في ارض العواصف؟
لقد نهش الفساد والادارة المستهترة للقطاع العام كل اوراق قوتنا، نهلنا من الدين حتى الغرق، صرف القطاع العام ما يقرب من 300 مليار دولار بعد الحرب لنعود ونستجدي الغرب من اجل 11 مليار دولار ومن اجل ماذا؟ من اجل اعادة النهوض ببنيتنا التحتية المترهِّلة! بنية تحتية مترهلة مع انفاق 300 مليار؟
هناك خطأ في مكانٍ ما!
علينا ان نعود الى جلسات مجلس النواب وتصاريح النواب من الكتل المختلفة ومواقف قادة البلاد جميعاً لنعرف انّ المشكلة هي الانفاق بالفساد: تضخم حجم القطاع العام وانهارت انتاجيته، تضخم حجم الانفاق العام وانعدم الانفاق الاستثماري، تموّلت الدولة بالدَّين حتى اصبح مجموع الدَّين العام عبارة عن فوائد دَين.
لبنان اليوم في وضع لا تُحسد عليه دولة، تحتاج الدولة للحفاظ على سعر ثابت لصرف الليرة وتُمعن كل مرّة في تدمير اسس هذا الثبات.
كيف يمكن الحفاظ على ثبات سعر الصرف اذا كنا لا نصدّر، ولا نحصل على استثمارات من القطاع الخاص ولا على استثمارات اجنبية مباشرة ولا نستقطب ودائع وقروضاً الاّ بكلفة لا يمكن ان يتحملّها اقتصاد دولة في العالم (وصفتها الصحافة العالمية بالاسطورية)، والمصرف المركزي يحصّل دولاراته من الاستدانة والهندسات المالية لا من عمليات السوق المفتوحة، ومؤسسات القطاع الحقيقي تقفل كتدحرج كرة الثلج؟
هل لا يزال الحفاظ على سعر الصرف الثابت ممكناً؟ نعم.
اذا توقف الانفاق بالفساد ستوفّر الدولة مبلغاً لا يقل عن 2,5 مليار دولار سنوياً، وفقاً لاكثر التقديرات تحفظاً، وستوفر معها 375 مليون دولار فوائد سنوية. هذا الوفر هو مدخل اعادة رفع تصنيف الديون السيادية للبنان، والذي سيؤدي الى تخفيض اضافي في فوائد الدين العام وعودة المستثمرين لضخ الاموال في الاقتصاد اللبناني.
اذا كانت الدولة قادرة على ذلك فستكون قادرة على ضبط «الفساد الصغير» عندها، واصلاح القطاع العام وضبط كتلة الأجور وتحسين جباية الدولة على حساب اموال «تحت الطاولة».
اما اذا لم تكن قادرة، او لم تكن راغبة، فلنتوقف عن التشدّق بحماية سعر الصرف والبحث كل يوم عن ضحية جديدة.
العصر الذهبي للانفاق بلا حساب ولّى، والاموال لم تعد بحاجة لنا بل نحن بحاجة لها، فهل تتوقف سياسة النعامة؟ الفارق انّ النعامة لم يهدها الله عقلاً ولم يبتلها بالطمع..