يوم السبت الماضي، مارس «حزب الله» في لبنان عملية شبيهة بعملية 7 أيار (مايو) 2008، يوم هاجم عناصره وأنصاره جماعة 14 آذار، وحاصروا بعض الزعماء بمن فيهم وليد جنبلاط وسعد الحريري.
ومع أن أسباب التوتر والاحتجاج مختلفة، إلا أن مواجهات السبت الماضي رسمت خطاً أحمر حول شخصية السيد حسن نصرالله، بحيث منعت قنوات التلفزيون من تخطّيه، لا فرق أكان ذلك في معرض الجد أو السخرية.
ولولا تدخّل الجيش والأجهزة الأمنية، لكانت الفتنة الطائفية والمذهبية وجدت مرتعاً خصباً عبر مواجهات العنف والعنف المضاد.
وعلى رغم تبريد أجواء الاحتقان، فإن حرية الإعلام التي تميَّز بها لبنان بدأت تفقد خصوصيتها، وتعرّض العاملين فيها لمختلف أساليب التهديد والوعيد.
وكان واضحاً من الشعارات التي أطلِقَت خلال مسيرات الاحتجاج المتنقلة، أن معايير السلوك الاجتماعي المتعلّقة بقيادات «حزب الله» تختلف كل الاختلاف عن معايير السلوك المتّبعة حيال زعماء 17 طائفة أخرى. من هنا قول المحللين أن وجه لبنان السابق والحقيقي قد تغير مع وجود «حزب الله» فوق أرضه. ومعنى هذا – وفق تقويم الزعامات المسيحية والسنّية – أن الوطن الذي وُلِدَ سنة 1943 لم يعد له وجود، وأن الطبقة المتوسطة التي نجحت في صنع نظام مستقر ومؤسسات اقتصادية قانونية… هذه كلها قد زالت واضمحلّت بعد سنة 1982. والسبب أن الحزب تعمَّد تحطيم كل القواعد الأساسية التي قامت عليها مداميك الجمهورية اللبنانية، مستعيضاً عنها بـ «قانون» يجيز له امتلاك أكبر ترسانة صواريخ في المنطقة.
في ظلّ هذا الوضع المقلق، تحوّل اللبنانيون الى شعب لا يثق بمستقبله… ولا يطمئن الى هويته. وكل ما بقي له من حاضره يُختصَر بحقيبة سفر…
ومن أجل تفسير الوقائع التي أوصلت لبنان الى ما وصل إليه، لا بد من مراجعة سريعة للأعمال التي نقلت نفوذ إيران الى شاطئ البحر الأبيض المتوسط. وفي سبيل تحقيق هذا الهدف، أرسلت طهران الى دمشق سفيراً مقتدراً هو علي أكبر محتشمي، بقي في سورية من 1982 حتى 1985. وبما أنه كان يعرف حدود دوره في ظل نظام حافظ الأسد، لذلك ركّز اهتمامه على إنشاء كوادر مقاتلة من شيعة الجنوب وبعلبك، وراح يكرر زياراته الى لبنان من دون أن يطلع الحكومة على نشاطاته.
خلال مراحل بناء الخلايا المدرّبة على استعمال السلاح، استثنت سورية «حزب الله» من قرار جمع سلاح الميليشيات، خلافاً لقرارات اتفاق الطائف. ومع وجود ثلاثين ألف جندي سوري على الأرض اللبنانية، كان هؤلاء يساعدون الحزب على جمع عناصره من منطقتي الجنوب وبعلبك. وقد سهّلت لهم الأموال المرسَلة من إيران (مئة مليون دولار سنوياً) القيام بعمليات اختراق للمجتمعات الفقيرة والمتحمّسة لخدمة مذهبها.
عقب انتشار أخبار المساعدات الاجتماعية التي قام بها «حزب الله» خلال سنة 1982، طلبت منه إيران «تنظيف» الأراضي اللبنانية من كل القوى الأجنبية التي قدِمَت للمشاركة في حفظ الأمن.
وخلال مدة لا تتجاوز السنتين (1983 – 1984)، أشرف عماد مغنية، المقرَّب جداً من مراكز السلطة في طهران، على تنفيذ عمليات عدة أهمها: نسف مقر المارينز قرب مطار بيروت… ونسف مركز القوات الفرنسية… ثم نسف مبنى السفارة الأميركية حيث قُتِل 250 شخصاً، بينهم 33 من موظفي الـ «سي آي إيه» في منطقة الشرق الأوسط. وكانت نتيجة تلك العمليات الدموية، التي رافقتها أعمال خطف واغتيال، انسحاب كل القوى الخارجية التي قدمت لمساعدة الدولة اللبنانية.
وكان من الطبيعي أن تتساءل العواصم الغربية عن سرّ الصمت الدولي على هذه الأعمال، من دون أن يُطلب من الأمم المتحدة تصنيف «حزب الله» منظمة إرهابية مثل «القاعدة» مثلاً.
جواب الأمم المتحدة أعطى المبررات القانونية اللازمة من أن «حزب الله» يملك كل الحق في طرد إسرائيل عن أرضه المحتلة. أما بالنسبة الى الأعمال المخلّة بالنظام الداخلي، فهي من اختصاص القوى الأمنية المحلية.
بالنسبة الى موضوع طرد كل القوى الأجنبية من جنوب لبنان وبيروت الغربية ومنطقة بعلبك، فقد أجمعت التحليلات على اعتباره خطوة تمهيدية لتسليح «حزب الله»، واعتباره كياناً مستقلاً داخل الجمهورية اللبنانية. وقد منحه ذلك التفرد هيمنة كاملة على المنطقة الممتدة من بلدة جزين حتى الحدود، أي ما عُرِف جغرافياً بمنطقة جبل عامل التي تضم إقليم التفاح وجبال الريحان وأرنون والنبطية.
ولهذه المنطقة في الذاكرة التاريخية الإيرانية صورة بهية جداً لأن أبناءها هم الذين أسسوا «التشيّع الصفوي»، في عهد اسماعيل الصفوي. وكانت إيران منذ الفتح الإسلامي وحتى العهد الصفوي، على مذهب أهل السنّة. وبسبب الخلاف مع العثمانيين، راحوا يبحثون عن مذهب آخر يعفيهم من الارتباط مع العثمانيين السنّة. وهكذا وجدوا في الشيعة العرب حاجة ماسة لتعميق التشيّع في إيران من خلال بناء فقهي وفكري أمّنه علماء منطقة جبل عامل.
وتشير دراسات هجرة علماء لبنان من منطقة جبل عامل الى إيران، الى أنهم تمتعوا بتأثير كبير في تربية جيل من الفقهاء الإيرانيين الذين مارسوا الشأن السياسي في الدولة الصفوية بعد ذلك.
ويقدّر مؤلف كتاب «هجرة علماء الشيعة» الباحث حسن غريب، أن عدد علماء جبل عامل تجاوز 97 عالماً، بينهم: علي عبدالعالي الكركي، كمال الدين درويش العاملي، حسين الجباعي، وبهاء الدين العاملي.
وتقول المصادر إن الكركي طوَّر نظرية النيابة العامة للفقهاء عن المهدي، والتي بموجبها أعطى رجال الدين الشيعة صلاحيات المهدي المنتظر (عن كتاب «جامع المقاصد»).
سنة 2006، أصدر «مركز الدراسات اللبنانية» في أوكسفورد دراسة قيّمة حول هذا الموضوع، الذي تولى كتابته المؤرخ ألبرت حوراني وحسن منيمنة وحسين الشهابي، تحت عنوان «علاقات قصية». وقد نشرته في حينه «دار توروس».
بعد انتهاء الحرب بين إيران والعراق سنة 1988، قرر الخميني تعميم نموذج النظام الذي أسسه في بلاده بواسطة آلاف الملالي. وكان لبنان في طليعة الدول المنتقاة لهذا الاختبار بسبب وجود ثلث عدد السكان من الطائفة الشيعية… وبسبب العلاقة التاريخية بين إيران الصفوية وعلماء جبل عامل.
ولما انتُخِبَ هاشمي رفسنجاني رئيساً، فاتح زواره من مشايخ شيعة لبنان بمدى احتمالات نجاح تجربة نموذج الجمهورية الإسلامية في جنوب لبنان. وتحفّظ الحاضرون على توقيت إعلان هذه البادرة، خوفاً من قيام «جمهورية مارونستان» في كسروان والمتن!
عقب انهيار المنظومة العربية، رأت إيران في هذا الزلزال السياسي فرصة تاريخية لترسيخ دويلات تابعة لنفوذها. عندها قامت قيادة «حزب الله» بخطوة مفاجئة ساعدتها دمشق على تحقيقها، بعد اغتيال رفيق الحريري. وتمثلت تلك الخطوة بعودة العماد ميشال عون الى الساحة السياسية، خصوصاً أن القوات السورية كانت قد أخلت الساحة. وهكذا شهدت كنيسة «مار مخايل» بروتوكولاً وقّعه العماد عون مع السيد حسن نصرالله. وبفضل ذلك التعهد، سقطت كل المحظورات عن ميشال عون وأنصاره وأصدقائه، بدءاً بالمتعامل مع إسرائيل العميد المتقاعد فايز كرم!
هذه السنة، انفجرت أزمة جديدة بين السعودية و «حزب الله» بسبب اتهام الرياض الحزب بإفساد علاقات اللبنانيين بمحيطهم العربي. وكان من الطبيعي أن تصدر عن ثلاثمئة ألف لبناني يعملون في دول الخليج مخاوف تتعلق بإجراءات عقابية. وقد بوشر في تنفيذ تلك الإجراءات في وقت تتهم جماعة 14 آذار «حزب الله» بتعطيل المؤسسات السياسية وعرقلة عملية اختيار رئيس جمهورية.
وبما أن «حزب الله» يمثل إيران في لبنان ومختلف دول العالم، فقد هددت السعودية بفرض عقوبات على كل الشركات المتعاملة مع الحزب، خصوصاً بعدما ثبت لها أن إيران تنشط في دعم الحوثيين بهدف تحويل اليمن الى أفغانستان خليجية.
السبب المباشر لغضب السعودية كان الموقف الذي اتخذه وزير خارجية لبنان جبران باسيل، في مؤتمر الجامعة العربية ومنظمة التعاون الإسلامي. ذلك أنه رفض التنديد بإحراق السفارة السعودية في طهران، مخالفاً بذلك موقف الحكومة، وموقف رئيسها تمام سلام.
إضافة الى تهديد دول الخليج بمعاقبة اللبنانيين، قررت السعودية وقف المساعدة الاقتصادية التي تبلغ ثلاثة بلايين دولار، والمخصصة لتسليح الجيش والشرطة. وجاء هذا القرار ليزيد حجم الأزمة الاقتصادية التي يمر بها لبنان. وهي أزمة مرشحة لاستقطاب دول الخليج في حال اتخذت إيران من البلد الصغير موقعاً لإحراج الدول العربية.
السعودية لم تكتفِ بتجميد ثلاثة بلايين دولار، بل هددت بسحب الأموال التي أودعتها في المصارف اللبنانية قبل 13 سنة. ويقول خبراء المال إن هذه الإيداعات ساعدت على استقرار قيمة الليرة اللبنانية. كما طلبت من مواطنيها عدم السفر الى لبنان. وقد حذت حذوها أربع دول خليجية.
استطراداً لهذه المواقف، أعلن يوم الأربعاء الماضي، أمين عام مجلس التعاون الخليجي عبداللطيف الزياني، أن المجلس اتخذ قراراً باعتبار «ميليشيات حزب الله منظمة إرهابية». وقد نأى لبنان بنفسه عن هذا القرار، بينما تحفّظ العراق. ونتجت من هذا القرار تصريحات رسمية عدة تناولت الرئيس الأميركي باراك أوباما، خصوصاً بعدما حذّره زعماء الخليج من خطورة تهوّره بالاتفاق النووي مع إيران، والإفراج عن مئة بليون دولار، ستستخدمها طهران لزعزعة دول مجلس التعاون الخليجي.
وفسرت الأمم المتحدة هذا القرار بأنه رفض قاطع لقبول سيطرة إيران على المنطقة التي تمتد من اليمن حتى لبنان…