Site icon IMLebanon

لبنانيون ينتقمون من أنفسهم وأغلى من لديهم

 

إبنة تضرب والدتها وأب يقتل طفلته

أب قتل ابنته ليحرق قلب زوجته. عذّبت ابن زوجها حتى الموت. شاب قتل طفله وانتحر. قتل ابنه وجلس لتناول الشاي. قتل ابنته ومزّق جثتها ورماها في النفايات. قتلت ابنها وحاولت الانتحار. قتل ابنته انتقاماً من نفسه… لا، لسنا في غابة بل في بلدٍ أصبح كما الغابة يموت فيه من يموت ويعيش فيه بالصدفة من يعيش. هي غابة. إنها هستيريا. إنه للأسف لبنان، حيث يزداد منسوب العدوانية وتطغى، لشدّة القلق، الغرائز السلبية و”السترس” والخوف من خطر يتقدم و”فرج” مفقود. لكن، هل يمكن لشخص “مهستر”، في التصنيف النفسي، أن يعذب طفله حتى الموت إنتقاماً من زوجته؟ هل يمكن لأمّ أن تقتل طفلتها وتقعد لترتشف الشاي؟ هي نهاية الدنيا أم هي حوادث تحدث منذ تكونت الدنيا وتشتدّ كلما طغى السواد؟

ها هو الإختصاصي في الطب النفسي الدكتور سمير جاموس قد عرف للتوّ عن قيام إحداهنّ بضرب والدتها المسنة كثيراً. شقيقها أخبره بذلك وهي ترفض أن تعالج. فماذا نقول أمام مشاهد كهذه: أمام إبنة تضرب والدتها وأم تقتل طفلتها وأب يعنّف إبنه؟

 

نقلّب صفحات العنف المنزلي، الأسري، الذي يزداد ويتمدد. نقرأ عن إبن الأشهر السبعة الذي تعرض الى ضرب مبرح وكسر في الجمجمة ونزيف حاد في الرأس بسبب عنف متمادٍ مارسته والدته عليه. نعم والدته. هي حادثة طازجة “طيّرت” صواب الكثيرين واستدعت تدخل القاضية جويل أبو حيدر وانتفاضة منظمات “حقوق الإنسان”. ولكن، قبل هذا الفعل، ومعه، وطبعاً بعده سمعنا، ونتوقع أن نظل نسمع، عن جرائم تهز الرأي العام ولا تلبث أن تبهت أمام جرائم جديدة، فالجريمة تمحو طنين جريمة سابقة والجريمة التالية ستمحو طنين الجريمة الحالية. وهكذا دواليك في بلد يجزم الدكتور جاموس أنه الأعلى عالمياً في استهلاك أدوية الأعصاب.

 

جميعنا نعيش في الحجر ونتألم نفسياً من كل الظروف المحيطة ونقلق من “بكرا” ونخاف على كل من نحب، لكن، من هم الأشخاص الأكثر عرضة ليُصبحوا في الأزمات “هستيريين” ويخرجوا بالتالي عن أطوارهم ويقوموا بأفعال لا يجرؤ عليها حيوان؟

 

 

يقول جاموس: “إن ما يتطور سلباً ويؤذي له علاقة بطبائع الإنسان الذي لا يعود قادراً على ضبط العدوانية فيه بسبب اضطرابات واحتكاكات مع الآخرين كما بسبب الظروف التي يعيشها، وهذا لا يعني طبعاً أن كل إنسان قد يصل، إذا تعرض الى ضغوطات شديدة، الى هذا الحدّ”، ويشرح: “من يتجاوزون كل القيم هم من لديهم الشخصية “الزورانية” الذين لا يقبلون أن “يشارعهم” (يناقشهم) أحد فيدخلوا في جدلية وينفسوا ما في داخلهم أحياناً برفع اليد وصفع الآخر، بغض النظر من هو هذا الآخر، أم، أب، زوج، زوجة، ابن، إبنة. إنها “تنفيسة” للـStress الذي في داخلهم. يفشون خلقهم في الآخر، الذي يتسبب لهم بضغط نفسي، من خلال تصرف عدواني. لا يعودون يميزون بين كبيرٍ وصغير، قريبٍ أو بعيد. وبقدر ما تكون العدوانية فيهم كبيرة أو صغيرة يأتي العدوان كبيراً أو صغيراً. فمستوى العنف هو بقدر مستوى العدوانية”.

 

يتذكر الطبيب النفسي أنه، في زمن الحرب، حارب هو كطبيب من خلال معالجة الجرحى، في حين يحارب البعض بالبندقية وقد يحارب آخرون من خلال ضرب الآخر أو تعنيفه. فالعدوانية موجودة لدى كل إنسان، قد يحولها من خلال طبيعة تربيته إيجاباً أو سلباً ويقول: “هناك غرائز عدة في داخل كل إنسان. البقاء غريزة أيضاً. وكلنا لدينا عدوانية نقوم من خلالها بالمحافظة على أنفسنا وبقائنا. فإذا هاجمنا كلب ندافع عن أنفسنا. ولو لم تكن غريزة البقاء موجودة لكان انقرض الإنسان. والعدوانية جزء من الغرائز الطبيعية وتأتي التربية لتضبطها وتجعل الإنسان يعرف أين يستخدمها وأين يمتنع عن ذلك. يضيف: حين يعيش الإنسان في ضغط نفسي كبير، كما يعيش اللبناني اليوم، قد يفقد القدرة على السيطرة على تصرفاته. فنرى من تزيد لديه نتيجة ذلك غريزة تناول الطعام أو الغريزة الجنسية أو حتى غريزة القتل. كل الغرائز لدى الإنسان تتأثر بسبب العدوانية الموجودة داخل كل إنسان. فنرى بعض الرجال، على سبيل المثال، تزيد لديهم في الظروف الصعبة الغريزة الجنسية ويمكن أن يؤدي ذلك الى تعنيف زوجاتهم وحتى أطفالهم. وعبثاً يحاولون ضبط الغرائز التي يشعرون بها. يضيف جاموس: “تولد الغرائز فينا لنستمر في الحياة، من خلال الأكل والدفاع عن النفس والإنجاب. ومن لا يتمتع بتربية تساعده على ضبط غرائزه سيقع حتماً في المحظور”.

 

حين يشتدّ الضغط النفسي (الـStress) تتأثر هورمونات الجسم كلها، فيرتفع الكورتيزول، وتصبح الغرائز خارج السيطرة. فتسيّره غرائزه بدل أن يسيّرها هو. وهذا لا يحدث في زمن الحجر فقط بل قد يحدث في أي وقت آخر. لكن الحجر في ذاته، بحسب جاموس، يؤدي الى تزايد الـStress ويجعل الغرائز تفلت على رأسها. هناك من “ينفّسون” الغرائز المتفلتة من خلال الرياضة أو الصلاة أو الرسم أو كتابة الشعر. ويستطرد الطبيب النفسي بالقول: “قد تنقلب حال العدوانية ضدّ الشخص نفسه، فنرى حالات كثيرة فقد صاحبها عمله ويرى أولاده “جوعانين” أمام عينيه وهو عاجز عن إيجاد الحل فيلجأ الى قتل نفسه، الى الإنتحار، فبدلاً من أن يحوّل عدوانيته الى الخارج يحولها الى الداخل، الى نفسه. الإنتحار إذاً هو عدوانية موجهة من الشخص الى نفسه، أما إذا وجهها الى الخارج فقد يقتل من أمامه وقد يقتل أطفاله بسبب عدم قدرته على ضبط غرائزه العدوانية”.

 

القاتل والفاسد

 

لا تتوقعوا من إنسان يعتبر نفسه ميتاً أن يفكر بعقلانية. لا تنتظروا من إنسان ينزل الى الشارع، في البرد و”كورونا” والجوع، أن يفكر بغيره. فهو إنسان تفلّتَ من كل الضوابط النفسية وأصبح قادراً أن يتوجه بعدوانيته الى الخارج أو الى الداخل، الى سواه أو الى نفسه، وسيقتل “الآخر” أو سيقتل نفسه.

 

القاتل، كما الفاسد، مجرم. لكن له في الطب النفسي تفسيرات. وهناك، بحسب جاموس، أدوية قد تساعد في تخفيض مستوى السترس. ثمة وسائل إصطناعية قد تساعد إبنة تقوم اليوم بضرب والدتها أو والدة تقوم اليوم بتعنيف طفلها ولكن، هذا لا يعفي هؤلاء من كونهم من المجرمين في حق الآخرين وفي حق أنفسهم. هذه هي القطبة المخفية الضيقة جداً بين القاتل والضحية.

 

في كل حال، هناك خرافات كثيرة تحوم في حوادث يطغى فيها وعليها العنف الأسري. فهناك خرافة تقول: حوادث التعنيف والقتل في داخل الأسرة الواحدة لا تحدث إلا في بيئات معينة، معدمة غالباً، ولا تحدث أبداً في بيئات المتعلّمين. هذه خرافة. فهناك عائلات نظنها تملك كل شيء في الظاهر لكن لا أحد يعرف ماذا يدور وراء الأبواب وكيف يتمكن كل إنسان في التعامل مع غرائزه، في حال عجزت تربيته عن جعله يسيطر عليها. وما يجب ألاّ يغفله أحد هو أن الطفل الذي يتعرض الى أذى من قلب العائلة، كما غالباً، قد يكبر ليمارس نفس الأذى على صغاره، وهناك قلة من “الناجين” يخلق لديها دافع قوي لحماية أطفالها مما مروا به. وهذا يعود الى قدرتها على السيطرة على العدوانية التي فيها.

 

لبنان، أكثر بلد في العالم يستهلك ناسه مهدئات مثل “لكزوتانيل” و”لورازيبوم” و”فاليوم”. فاللبناني من زمان وزمان ما عاد قادراً على النوم على وسادته مرتاحاً.

 

اللبناني الذي “يفش خلقه” في الآخرين ويعنف من هم أضعف منه، بطفله أو بوالدته، هو مريض نفسي أم ضحية أم مجرم؟ يجيب سمير جاموس: “هو مريض نفسي مشكلته أنه تردد في الخضوع الى علاج بسبب تخلف هائل في مجتمعنا يمنعه من ذلك. فالرجل يخال نفسه “قبضاي” وليس مريضاً ويرفض رفضاً قاطعاً العلاج بسبب الأفكار السلبية تجاه الطب النفسي”.

 

الجرائم البشعة تتكرر. التعنيف القاسي، الذي لا نخال أن إنساناً قادر على القيام به، يحدث. فتيات صغيرات يُحرقن. فتيانٌ صغار يُرمون بمياه النار. حوادث قتل كثيرة تحدث وتستوجب قصاصاً ولكن، ثمة مسؤولية في كثير منها على من يراقبون ما تؤول إليه حياة الكثيرين بلا أي تدخل مسبق. الحيوان لا يفعل بحيوانات أنجبها ما يفعله أناس، بشر كثيرون، بأطفالهم. إنها قصص فظيعة تخفي وراءها الكثير من القصص الأليمة. ثمة حق على الهورمونات “الملخبطة” وثمة مسؤولية كبيرة على من يساهم بكل هذا “التلخبط” الذي يعيشه اللبناني. الدولة هنا أيضاً مسؤولة.

 

صحيح أن الأحداث الفظيعة تحصل في كل العالم، ولكن اللبنانيين لم يتعودوا هذه الكمية من الأحداث التي تحصل اليوم. ولكن، ماذا سيطلب اللبناني من دولة سرقت ماله وفجرته؟ هل سينتظر منها النظر الى “تلخبط” هورموناته وارتفاع منسوب عدوانيته؟ “خلونا ساكتين” هذا هو جواب كثير من اللبنانيين.