IMLebanon

التدمير النفسي للأجيال الجديدة

النزاعات المسلحة والأزمات الحادة التي لا تزال تحتدم في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، سيكون لها أعمق الأثر على الأجيال الناشئة والأجيال المقبلة من النواحي كافة، مما سينعكس سلباً على حاضر العالم العربي ومستقبله، ويسبّب حدوثَ أنواع من الاضطرابات النفسية لدى كثير من الأطفال والشباب تدفعهم نحو الانحراف بكل أشكاله، وترمي بهم إلى متاهات الضياع، فتضيع الأوطان بضياعهم. فنصف الشعب السوري أصبح مهجراً لاجئاً أو نازحاً مشرداً، بما يقارب عشرة ملايين مواطن، فيهم ما لا يقل عن أربعة ملايين طفل صاروا محرومين من التنشئة الطبيعية في ظل العيش الكريم. وأكثر من مليوني طفل عراقي يعيشون في العراء في ظروف شديدة البؤس، وحوالى مليون وسبعمئة ألف طفل يمني باتوا مشردين ومعرضين لشتى الأخطار، ونصف مليون طفل ليبي يعيشون ظروفاً بالغة السوء، أضف إلى ذلك ما يعانيه الأطفال الفلسطينيون تحت الاحتلال الإسرائيلي والحصار والتجويع المفروضين على قطاع غزة، من القهر والقمع والاستبداد والحرمان. وهو الأمر الذي يرسم صورة سوداء للمستقبل، ويؤكد احتمال الانتكاس إلى مزيد من الأزمات الطاحنة التي لا تكاد تنتهي.

أطفال اليوم هم المستقبل الذي يضيع من بين أيدينا، وبقدر ما تسوء أحوال الأطفال العرب في كثير من الدول العربية، يضعف الأمل في الخروج من الأنفاق المظلمة إلى الساحات المضيئة المشعة بالأنوار التي يحتفظ فيها الإنسان بكرامته، ويشعر بالانتماء الحقيقي إلى الوطن، وينأى بنفسه عن مهاوي اليأس والانكسار والشعور بالمهانة والاحتقار.

إذا ساد البؤس وفشا الحرمان وتَفَاقَمَت الأوضاع أكثر مما هي عليه الآن وتغلغلت الروح الطائفية التي تنفخ في نارها إيران ومن يتبعها من عملاء وأجراء، ستنهار أعمدة المستقبل، وتنشأ أجيال مقطوعة الصلة بأوطانها، كارهة لهويتها، غاضبة ساخطة قابلة للسقوط في مستنقعات التطرف والتعصب اللذين يفضيان إلى ارتكاب جرائم الإرهاب. وبذلك يكون بعضٌ من العرب يخرّبون بيوتهم بأيديهم، ويصنعون مستقبلهم المظلم على أعينهم، ويُوردون أنفسهم موارد الهلاك عن تصميم ودأب وإصرار. وبئس العاقبة لأمة تقطع صلتها بماضيها وتفسد حاضرها وتفرط في مستقبلها، عن جهالة عمياء وسياسات رعناء.

وإذا كانت الأوضاع المزرية التي تمرّ بها بعض الدول العربية التي تَتَصَاعَدُ فيها حدة الصراعات، هي التي أفرزت هذه الأزمات التي لا يزال خطرها يَتَعَاظَـمُ يوماً بعد يوم، فإن أزمة الأجيال الجديدة تفوق في آثارها التدميرية للنفس الإنسانية غيرَها من الأزمات، بما فيها السياسية والاقتصادية، لأن تلك أزمات عابرة لا تدوم وفقاً لقاعدة من المحال بقاء الحال على ما هي عليه، بينما التدمير النفسي للإنسان يدوم وهو من أعظم الكوارث التي تصيب شعباً من الشعوب في مرحلة من التاريخ. فلا مجال هنا للترميم، أو لإعادة التركيب، أو للإصلاح على أي وجه، لأن ضياع جوهر الإنسان لا يعوض بأي حال.

إن هذا الجيل الذي نشأ في خضم النزاعات المسلحة المدمرة للبشر وللحجر وللشجر، وتفتحت مداركه على هذه الأهوال المرعبة والحمى الطائفية المخرّبة، هو في حقيقة الأمر، وبالمقاييس العلمية المعتمدة، جيل ضائع لا رأب لانكساره ولا رتق لتمزقه. وبذلك تتضح الصورة الحقيقية المهولة للجرائم التي ارتكبها، ولا يزال يرتكبها المجرمون المستبدون الذين ساقوا شعوبهم إلى هذا المصير المظلم، فقتلوا وعاثوا فساداً ودماراً وخراباً بما يفوق الخيال، فدمروا روح الإنسان، وأفقدوه الأمل في أن يغير أوضاعه، ويصلح أحواله، ويحقق أحلامه، ويرتقي بإنسانيته، ويحفظ كرامته التي كرمه الخالق سبحانه وتعالى بها. فهذه الجرائم بالغة الخطورة لأنها لا تقتل الإنسان وتبيده من الأرض بل تدمر روحه تدميراً وتُبقيه كائناً حياًّ بلا جوهر، وبلا هوية، وبلا إرادة يقدر بها أن يغير أوضاعه السيئة ويشفي جراحه، ويستعيد عافيته.

ومن المفارقات العجيبة أن الدول التي رفعت شعارات الثورة والتقدم والحرية والتي استبعد حكامها الطغاة وظلموا شعوبهم، وحاصروها وقهروا إرادتها وأفقروها وأفسدوا أحوالها، حين اغتصبوا الحكم بتواطؤ من القوى العظمى التي مهدت لهم السبيل لإقامة أنظمة حكم فاسدة قائمة على الإيديولوجيات البائرة والسياسات الخاسرة. في سورية والعراق واليمن وليبيا خلال العقود الأخيرة، هي الدول التي انفجرت فيها المآسي والحروب وانتشر الفساد والبطش. ثم جاءت إيران بفكرها الظلامي التكفيري وخرافاتها الرجعية البدائية وأطماعها العنصرية الطائفية، لتزيد الطين بلّة والنار اشتعالاً والأزمات تفاقماً.

هكذا يتم التدمير النفسي للأجيال العربية الجديدة، كما تم العسف الروحي والإرهاب الثقافي والغزو الفكري للأجيال السابقة. وفي هذه الحال ستكون الآثار المدمرة على الأجيال المقبلة أشدّ هولاً وأعمق غوراً وأبعد مدى. فمن ينقذ الأجيال الناشئة التي تغوص في أوحال الفوضى العارمة الهدامة التي تكتسح عدداً من الدول العربية الغارقة في دوامة القتل والتهجير والطائفية المقيتة؟.

تقول خلاصة حكمة التاريخ إن إنقاذ البشر أهم من إنقاذ الحجر.