نقيب محرري الصحافة
ثمة ما هو أخطر من الحرب الميدانية. إنّها الحرب النفسية التي تستبق كل حرب وتواكبها وتليها. ومادتها إشاعة كاذبة، أو سيناريو شديد الحبكة يورد سردية، الغاية منها إلقاء الرعب والشكوك في قلوب الناس وأذهانها. وهذه الحرب أشدّ فتكاً من الصواريخ الخارقة والقذائف الحارقة، وتوهن النفوس قبل العزائم. ويَصعُب حصر الأمثلة عن الأثر الذي خلّفته الحروب النفسية في مسار المعارك، وأنّ بعضها كان عاملاً رئيساً في حسمها قبل بدايتها، أو على الأقل في تسريع خواتيمها.
في التاريخ الحديث، وتحديداً في الحرب الكونية الثانية، استطاع أدولف هتلر إجادة استخدام هذا الأسلوب الذي لم يقلّ فتكاً عن آلته الحربية، من خلال الدور الذي قام به باول جوزف غوبلز على رأس «وزارة الرايخ للتنوير العام والإعلام»، حيث قاد فريقاً من الاختصاصيِّين لبَث الدعاية النازية في ألمانيا وسائر دول أوروبا، خصوصاً تلك التي تضمّ شعوباً جرمانية، انطلاقاً من القواعد التي أعلن عنها هتلر في كتابه «هذا كفاحي»، والذي يقوم على فلسفة القوة التي تأثر فيها بنيتشه، وتفوّق العرق الآري وبناء عالم جديد يتطابق مع المعايير الواردة في كتابه.
وانطلق غوبلز في عمله من ثابتتي الكذب والتكرار، فمن أقواله «بالغ في كذبك، فكلما كبرت الكذبة سهل تصديقها»، و«ليست مهمّة الدعاية أن تكون جيدة، بل أن تحقق النجاح»، و«الدعاية الناجحة يجب أن تحتوي على نقاط قليلة وتعتمد التكرار» و»كلما كبرت الكذبة سهل تصديقها».
على أنّ غوبلز لم يكذب على نفسه عندما حلّت الهزيمة بملهمه «الفوهرر» الذي عيّنه قبيل انتحاره مع صديقته إيفا براون في الثلاثين من نيسان 1945 خليفة له، أي مستشار الرايخ، فوضع حداً لحياته في اليوم التالي مع زوجته وأولاده الستة، ملتحقاً بالشخص الذي أخلص له حتى النزع الأخير.
لم يكن كمحمد سعيد الصحّاف الذي «أتحفنا» بـ«علوجه» وولّى الأدبار إلى خارج العراق غير آبهٍ بسقوط بغداد ومصير رئيسه صدام حسين.
كان غوبلز صاحب مدرسة في التضليل، والمراوغة، يلين كملامس الأفاعي ليتمكن من نفث سمومه، ويعرف أنّ سلاحه هذا أشدّ فتكاً من أزيز الطائرات وهدير المدافع، ومكر الغواصات. اتقن فنّ الكذب ووظّفه في خدمة آلة الموت النازية.
ولغوبلز أتباع ومعجبون في العالم كافة، ومن تلامذته النجباء يونس البحري الذي كان يخاطب العرب من إذاعة برلين: «حي العرب»، وقد أدخل في روع كثيرين منهم أنّ هتلر هو صديقهم ويسعى إلى تحريرهم، ورفاههم. وقلة منهم كانت تعلم في أي درجة من «الرقي» صنّفهم النازيون.
واليوم، إسرائيل تعتمد أسلوب الحرب النفسية بكثافة واتقان وحرفية من خلال بث الإشاعات، والإيحاء بتحليلات على كثير من وكالات الأنباء العالمية، والمنصات والفضائيات الدولية والصحف الغربية، تتضمّن سيناريوهات صادمة وخطيرة، عدا عن التحذيرات التي ترسلها إلى لبنان بمختلف الوسائل، وكانت قد اتبعت الأسلوب نفسه من قبل، ومنها ما كانت تتوخّى إلقاء الهلع في النفوس، وترمي إلى إيقاع الفتنة بين اللبنانيِّين، ومنها ما كانت حقيقية مهّدت لعمليات قصف وحشية قضى جراؤها مئات، بل آلاف الأبرياء، وذلك من دون إعطاء أي دليل على ذنب اقترفه هؤلاء سوى النزعة الإجرامية الجارفة التي تتحكّم بقادة الكيان الصهيوني الذين يريدون لبنان أرضاً محروقة ظنّاً منهم أنّ هذه السياسة تؤدّي فعلاً إلى إضعاف «حزب الله» إلى الحدود الدنيا بما يسهل عملية استئصاله.
إنّ الأخبار المتناقضة التي تصدر عن جهة واحدة حول موضوع واحد، لا يعني بالضرورة ارتباكاً أو عدم القدرة على التمييز بين ما هو حقيقي واقعي وما هو كاذب وافتراضي. بل قد تكون تتعمده لإرباك الآخرين وإيقاعهم في الحيرة والرعب والتردّد، ممّا يشلّ حركتهم وقدرتهم على التفكير.
وقد استطاعت إسرائيل اختراق حسابات كثير من اللبنانيِّين، وبعث الرسائل اليهم، وإمرار المعلومات الكاذبة بغرض إحداث البلبلة في صفوفهم، قبل انكشاف زيف ما تسوّق. وأنّ لا سبيل إلى تجاوز تأثير هذه الحرب النفسية الإسرائيلية إلّا بحرب مضادة تماثلها من حيث الفاعلية والذكاء، وأحياناً الخبث على قاعدة «Á MALIN UN MALIN ET DEMI»، لكنّ الإمكانات غير متوافرة على المستوى الرسمي، ولا يمكن تقدير حجم قوّتها لدى «حزب الله»، ولا أي قوة أخرى.
وما نشهده من رصد ومتابعة وردود في مواجهة الآلة الدعائية السياسية والحربية في الدولة العبرية، لا يعدو كونها مجهودات فردية أو جماعية محدودة الإمكانات على رغم من بعض النتائج الجيدة التي توصّلت إليها، والتي لا يمكن أن تحدث تكافؤاً أو توازناً مع هذه الدولة التي تيسّرت لها كل أسباب «التكنولوجيا» المتقدمة.
وفي أي حال، فإنّ من المؤسف أن نشهد في لبنان «طوفاناً» من نوع آخر، هو طوفان الـ«FAKE NEWS» أي الأخبار المغلوطة التي تخلخل قواعد الأمن الأمني، والأمن الاجتماعي، والأمن الحياتي، وتبلبل أفكار مشغلي وسائط التواصل الاجتماعي بما يؤدّي إلى العبث بالسلم الأهلي، وإرعاب المواطنين، وقد يكون وراء هذا الطوفان غير المسبوق جهات خارجية. وقد يكون الدافع إلى ذلك سياسياً محلياً، أو انتقامياً شخصياً، أو على سبيل المزاح السمج.
وإنّ مطلقي الإشاعات ووسائل التواصل الاجتماعي التي تعتمد أحياناً الخداع القاتل يمارسون «خداعهم» المريب من دون رادع أو وازع، في ظل العجز عن إخضاعهم لقواعد الانضباط، لعدم وجود قانون ينظّم مواقع التواصل الاجتماعي – أقله في لبنان – وأي مساءلة أو ملاحقة قانونية لهم تعود إلى استنسابية القضاء، واجتهاده في تقدير حجم المخالفة وخطورتها. فيما تخضع المواقع الالكترونية موقتاً لقانون المطبوعات.
إنّ رئيس حزب الكتائب اللبنانية بيار الجميل كان يقول: «إنّ خطر الإعلام يوازي القنبلة الذرية»، في دلالة على قدرته التدميرية إذا لم يُوظَّف في الاتجاه الذي يهدم الحقيقة. أمّا الأديب الكبير سعيد تقي الدين، فكان يقول: «إذا أردت أن تغتال إنساناً، أطلق عليه شائعة».
ومن بين العرب الذين برعوا في الحرب النفسية ضدّ خصوم الرئيس جمال عبد الناصر، هناك المذيع في «صوت العرب» أحمد سعيد الذي كان قادراً على تأليب الجماهير على قياداتها، وتوهين قادة الرأي والصحافيِّين المعارضين ونبذهم في محيطهم وإغداق التوصيفات المسيئة عليهم، وقد أصاب نجاحاً حيث أخفقت المخابرات.
وتجدر الإشارة إلى أنّ حُبّ الشعوب العربية لناصر ووقع سحره عليها، هو ما عزّز فاعلية سعيد وحملها على تصديق مبالغاته، ومجاراته في ما كان يبث. وهذا المذيع نفسه أصبح هدفاً لنكات الجماهير التي أوهمها بهزيمة إسرائيل في الخامس من حزيران 1967، فيما كانت النتيجة معاكسة تماماً ومذلّة.
خلاصة القول، ليس هناك لقاح جاهز وفاعل ضدّ «الحرب النفسية» بصيغتها «الغوبلزية» أو صيغتها التي تلت مرحلته، والتي شكّلت «التكنولوجيا» عاملاً داعماً لها. اللقاح المتاح هو التحصن بالوعي والمنطق واعتماد التحليل الموضوعي لكل ما يُبَث في وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي، للوصول إلى الخلاصات التي تجنّب الوقوع في الخطيئة والمحظور.